الثلاثاء، 14 أبريل 2015

محمود البدوى ـ قصص قصيرة ـ قصص مصرية ـ قصص عربية ـ الأدب المصرى ـ الأدب العربى ـ ليلة فى الطريق







 نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان



الذهب 
  


     كانت الشمس فى الطفل .. وأخذت أنفاس الغروب اللينة تهب على الساحة الكبيرة .. وتحرك الرايات المنصوبة .. وتلطف حرارة الجو ..
     وكان الزحام بالغا أشده فى قرية " أبو تيج " .. فقد كانت الليلة الأخيرة فى مولد الفرغل والناس يتحركون فى الشوارع فى فوج يدفعه فوج .. والقطارات والسيارات والعربات تفرغ حمولتها فى ساحة المولد منذ الشروق ثم تعود فتمتلىء بالناس من جديد ..
     كانت الحركة شديدة فى كل مكان وتجار الحلوى والعرائس .. وباعة الحمص .. ولعب الأطفال .. قد نصبوا الخيام الزركشة والملونة بكل الألوان واصطفوا فى صفوف طويلة وعلى واجهات محلاتهم تخفق الرايات والأعلام ..
     وكانت المراجيح تدور فى خارج الساحة .. والفرسان يرقصون على الخيل .. والموسيقى تصدح .. والمزامير تزمر .. والطبول تدق .. والرجال يلعبون لعبة التحطيب .. والنساء يرقصن فى السامر ..
     وكانت الزينات على واجهة البيوت وفى الشوارع والفرحة تغمر الرجال والنساء والصغار والكبار .. وقد اختلط الذكارة والمشعوذون بالغوانى والراقصات ودار الرقص بالصاجات وطاف الذكارة وهمهموا .. ومالوا برءوسهم .. وانطلقت الأكف والحناجر .. واختلط الحابل بالنابل .. فى جذل وسرور كأنه العيد الذى ليس بعده عيد ..
     وكان الفلاحون يخبون فى الجلابيب الزاهية .. والجبب والقفاطين الجديدة وعلى رءوسهم اللبد والعمم الصغيرة .. وعلى أكتافهم الملاحف واللاسات .. والمناديل .. المحلاوى ..
     وكان الصبيان فى ملابسهم الصفراء والخضراء يجرون فى الساحة فى بهجة منطلقة .. وأخذت المشاعل تتوهج وأنوار الكلوبات تسطع منذ هبط الليل ..
     وكان المولد فى الواقع .. ذكرى للسيد الفرغل .. ولكنه عيد بهيج للفلاحين وموسم للتجار يبيعون فيه السلع على نطاق واسع ..
     وكان القرويون يجدون فيه متعتهم فى لعبة التحطيب والرقص على الخيل .. وترتيل المواويل .. والطواف فى الذكر .. والتجار يجدون فيه السوق الكبيرة للربح .. كانوا يبيعون الحلوى .. والمناديل .. والقفاطين .. والشاهى .. والزعابيط .. والبشاكير .. وقطع الدمور .. والغزل والمراكيب .. وحبال الليف والبكر .. والجرافات .. والمدارى .. وقلوع المراكب ..
     وكانت النقود تخرج من المحافظ والجيوب فى سهولة ويسر وأنواع العملة القديمة والحديثة تتداول فى الأيدى ..
     وكانت المقاهى الصغيرة المقامة من الخيام والحصر .. ومن قلوع المراكب القديمة .. ممتلئة بالرواد فى كل ساعة ..
     وكان الفلاحون الذين لم يبرحوا القرية قط .. ولم يخرجوا عن حدودها إلا فى هذه المرة ولم يشاهدوا طوال حياتهم غير المحراث والساقية والشادوف .. ينظرون إلى الأراجوز .. وإلى خيال الظل .. وإلى الحاوى .. الذى يأكل النار .. ويمزق سلاسل الحديد كشىء معجز وخارق .. وفوق تصورات العقل .. شىء كالذى سمعوا عنه فى قصص أبو زيد الهلالى والزناتى خليفة ..
     وكانت قصة أبو زيد نفسها تتلى فى الساحة من العصر .. والقرويون يستمعون إليها للمرة الألف فى اعجاب وذهول ..
     وكانت ساحة المولد تضم كل ألوان البشر .. تضم الراقصات والغوازى والنشالين والدجالين .. والمشعوذين والمتسولين ورجال الدرك .. الذين يفرضون الأتاوات على صغار التجار وكبارهم .. كما تجمع من الأفندية ولابسى اللبد والعمم .. وكل هذه الأشياء المتناقضة كانت تذوب فى بهجة المولد ..
     انها ليلة واحدة فى السنة تجمع هذا الخليط العجيب من البشر ..
     ولم يكن القرويون القادمون من البلاد المجاورة .. يجدون مكانا لمبيتهم .. لأنه لاتوجد فى المدينة فنادق على الاطلاق .. فكانوا يقضون الليل ساهرين فى ساحة المولد إلى الصباح وإذا أتعبهم السير فى الركب استراحوا فى المقاهى .. أو دخلوا فى صوان من الصواوين .. أو افترشوا الأرض ..
*** 
     وكان بعض القرويين جالسين فى قهوة صغيرة من هذه المقاهى المنتشرة فى المولد يشربون الشاى ويستريحون بعد التجوال ..
     وعندما جاء وقت دفع المشروبات أخرج واحد منهم ورقة بخمسين قرشا وهو يحلف بالله ألا يدفع الحساب سواه .. وأعطاها لصبى القهوة .. فأخذ ثمن الطلبات ورد له الباقى وفيه عشرة قروش من الفضة الجديدة ..
     فنظر إليها الفلاح متشككا لأنه يراها لأول مرة .. وعرضها على رفيق له متنور ويعرف القراءة .. فقال له هذا :
     ـ مالها .. إنها .. جيدة ..
     ـ حسبتها من الرصاص ..
     ـ إنها من الفضة .. واسمع رنينها فإذا كنت لا تريدها خذ غيرها من جيبى ..
     ودفعها القروى فى جيبه فعلا وهو معجب ببريقها وأعطى زميلة سواها ..
     ونهضوا من المقهى ليستأنفوا التجوال فى الساحة ويتفرجوا على الأراجوز ..
     فاستلفت نظرهم شخص بصروا به من قبل فى أكثر من مكان .. وكان ينتقل من ركن إلى ركن فى ساحة المولد .. وقد تجمع حوله الناس ..
     وكان رجلا فى الثلاثين من عمره يرتدى بدلة رمادية .. ويبدو وهو واقف فى جدار الخيمة أطول من كل الناس .. وكان يضع على رأسه طربوشا أماله إلى جانب .. وفتح قميصة عن صدر عريض .. وحرك ذراعيه وأخذ يجلجل بصوت كالرعد .. وفى يده اليسرى زجاجات صغيرة .. زجاجات وضع فيها .. كل أنواع الأدوية .. كل العقاقير التى تشفى جميع الأمراض التى يشكو منها الفلاحون .. القطرة التى تشفى أمراض العيون .. والمزيج الذى يزيل الكحة والبلغم .. والمسكن الذى يزيل المغص .. والعقار الذى يخرج الرطوبة من الجسم .. والعنبر الذى يجعل العجوز المتهالك فى قوة الثور ..
     كان الرجل ينادى على بضاعته وعيناه مركزتان على الرءوس التى تتطلع إليه فى صمت وتردد .. وتظل الأيدى مغلولة ومترددة والرجل يصيح فى قوة وصبر ..
     ثم تمتد يد واحدة بعشرة قروش .. وتضعها فى يد الرجل وتتناول منه الزجاجة الصغيرة وتتأملها فى عجب .. وتتبع هذه اليد مئات الأيدى تطلب من الرجل الزجاجات فى ثورة محمومة ..
     ووقف الرجل وهو لايستطيع أن يلبى جميع الطلبات .. وكان بجواره رفيق له يساعده ويفك للقرويين الجنيه ونصف الجنيه ويعطيهم القطع الفضية الجديدة ..
     ويفرح الفلاحون بالفضة .. وينطلق الرجل بسرعة إلى مكان آخر ..
***  
     وظل المولد يدور ويدور والناس يتحركون من مكان إلى مكان .. وبعد الساعة الثانية صباحا خفت الأرجل وأغلقت الحوانيت وأطفئت الأنوار .. وظهر صوت " الكلوبات " وهى ترسل الدخان .. إيذانا بفراغ ما فى جوفها من وقود ..
     وكان يسمع من الناحية الشرقية من الساحة صوت الصاجات وضربة الدف .. ثم خيم السكون بعد ساعة على كل شىء فى الرحبة .. ومالت الرءوس الساهرة فى مكانها لتستريح ساعة قبل أن يطلع النهار ..
***
     وكان هناك رجل وحيد لم يكن بصحبة أحد كان يتحرك وحده منذ أول الليل فى الساحة كلها ويتنقل من مكان إلى مكان .. ولم يكن يبقى فى موضع بعينه أكثر من دقيقتين ثم ينسحب إلى غيره سريعا .. وأخيرا اتجه إلى خيمة صغيرة .. ووجد بداخلها راقصة ساهرة ولا تزال ترتدى ملابس الرقص .. وقد أخذ عامل بالمحل يجمع الكراسى من الخارج .. ويحرك الموائد ..
     ودخل الرجل الوحيد المكان فى هدوء والراقصة تراقبه .. حتى جلس قريبا منها .. وسألها بلطف وهو يمسك بسيجارة فى يده :
ـ انتهى الرقص ..؟
ـ نعم .. ولا مانع أن أرقص لك وحدك .. إذا رغبت ..
ـ يسرنى ذلك ..
ـ نقطنى إذن ..
ومدت له صحنا فيه قطع فضية جديدة .. من ذات العشرة قروش والخمسة قروش فدفع يده فى جيبه وأخرج لها ريالا وضعه فى الصحن ..
فقالت له بابتسام :
ـ أنا لا أرقص بريال واحد ..
ـ ماذا تريدين إذن ..؟
ـ ضع جنيها .. أو خمسة ..
ـ فى الواقع لقد شاهدتك وأنت ترقصين واستمتعت برقصك .. وهو شىء يحير الألباب وجئت الساعة لأستريح وأشرب ..
ـ لقد شاهدتك وأنت على الباب .. أكثر من مرة ثم تذهب .. ولماذا لم تدخل ..؟
ـ لأنى مفلس .. ولأنى أخاف ..
ـ إن الدخول لا يكلفك أكثر من ثمن زجاجة من الكازوزة ..
ـ الواقع أننى كنت أخاف من الزحام وأحب أن أراك وحدك هكذا .. ولقد دخلت بعد أن رأيتك وحدك وانفض السامر ..
ـ ولست عطشان ..؟
ـ فى شدة العطش ..
ودخلت وراءه الخيمة وجاءت له بكوب من الماء .. وكانت قد وضعت ثوبا على ثوب الرقص فغطت جسمها وصدرها ..
فقال وهو يشرب ويشير إلى الروب :
ـ لقد أحسنت صنعا ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنك غطيت الشىء الذى بهرنى وما زال يبهرنى ..
ـ ما هو ..؟
ـ الذهب الذى على صدرك ..
معظم الراقصات فى المولد يتزين بمثله .. وأكثر منه ..
ـ ولكن الذى على صدرك .. شىء آخر ..شىء هزنى .. وخطف بصرى وجذبنى إليه بسحر لا يوصف .. ومنذ عشرين سنة وأنا أحلم بمثله .. أحلم بأن أصنع مثل هذا الشىء البراق ..
ـ لست بفاهمة ..؟
ـ بالعلم .. والكيمياء .. يمكن أن يتوصل العقل البشرى ويحول النحاس إلى ذهب وقد حاولت ذلك ..
ـ ونجحت ..؟
ـ نجحت فى شىء واحد .. حولت الرصاص إلى فضة ..
قال هذا فى مرارة وهو يضحك ضحكة حزينة .. وكان صوته يفيض بالحسرة .. ونظرت إليه وإلى شحوب وجهه .. وأدركت من قميصه المتسخ أنه لم يغيره منذ أسبوع .. وأنه يلبس البدلة وينام بها فى القطارات ..
وسألته :
ـ من القاهرة ..؟
ـ أجل ..
ـ وجئت لترى المولد ..؟
ـ إنى أحضر كل سنة .. وأحضر كل الموالد .. مولد السيد البدوى .. والدسوقى .. وسيدى العباس المرسى .. وسيدى عبد الرحيم القناوى .. وسيدى جلال السيوطى .. أحضر كل الموالد ..
ـ اتبحث عن الذهب ..
ـ أجل .. ولكنى أدركت الآن .. حقيقة الوجود .. أدركت الذهب الحقيقى .. الذهب الذى لايقدر بمال ..
وأخذت تنظر بشغف إلى وجهه دون أن تدرى ما تفعله على وجه التحقيق ..
وقال وهو ينفث الدخان من سيجارته .. ويتأمل وجهها الساكن :
ـ لقد أضعت فى الدوامة .. دوامة الحصول على الذهب .. أملاك أبى وأمى .. وأملاكى الخاصة .. أكثر من مائة فدان .. ضاعت فى لوثة تحويل النحاس إلى ذهب ..
ـ وكيف فكرت فى هذا ..؟
ـ كان لى صديق جاور رجلا المانيا كان يعمل فى القاهرة بالكيمياء ويطل المعادن الرخيصة بالطلاء البراق فتبدو مذهلة .. وتحدثنا ذات ليلة عن الذهب وناولنى كتابا قديما يتحدث عن الصناع الذين يحولون النحاس إلى ذهب .. ومن وقتها وأنا أعيش فى هذه اللوثة ولقد ضعت تماما وراء هذا الشىء البراق .. عشت وحيدا ضالا ولم أسمع كلمة عطف من إنسان .. وكان العذاب والخيبة يدفعان دائما إلى عذاب أشد وخيبة أكثر مرارة .. ولم أعرف للراحة طعما .. فى حياتى الماضية .. أتلفت نفسى ..
واستطاعت المرأة أن تدرك من الدموع المتألقة فى عينيه ومن صوته المرتجف أنه يتعذب ويبحث عن الحنان .. وأخذت تنظر بشغف إلى وجهه .. دون أن تدرى ما تفعله على التحقيق ..
وسألها عن البلياتشو المتكور هناك :
ـ هل هذا زوجك ..؟
ـ أنه رفيقى فى العمل ..
ـ وزوجك ..؟
ـ إنى غير متزوجة ..
وتأملها مليا وهى تقول هذا بصوت خافت .. كانت فى الثالثة والعشرين من عمرها .. طويلة ملساء العود .. فى عينيها الحنان الذى يبحث عنه .. ويتوق إليه ..
ونظر حواليه فرأى البلياتشو ورجلين آخرين فى المرقص قد ناموا وتغطوا بالملايات المحلاوى وخلت الساحة من كل أحد ..
وبقيت القراطيس الفارغة .. ووحشة الليل والسكون .. وأخذت الكلوبات ترسل الدخان الأسود وتلفظ أنفاسها ..
وبدأ نور الشفق الوردى يطلع من الشرق ويطارد الظلمة ..
*** 
وظل ساهرا معها يتحدث وهو لا يعرف حتى اسمها ولا يحس بمرور الوقت وأحس لأول مرة فى حياته أن المرأة ستظل دوما نور القلب ..
وظل يحد النظر إليها صامتا وكانت جميلة ومشرقة ولم ير هو أجمل منها .. وكانت عيناه تفتشان فيها عن شىء ضاع منه .. منذ سنبن وسنين .. وقد وجده أخيرا .. فى عينيها ونظرة الحنان التى تطل منها .. ولن يعيش ضالا بعد الآن ..
وقال لها وهو ينظر إلى القطع الفضية الجديدة .. وكانت لاتزال فى الصحن هناك :
ـ أهذه كلها نقطة ..؟
ـ نعم .. ولا أدرى من أين جاء الفلاحون بهذه القطع الجديدة ..
وهمس :
ـ إنها منى ومن صنع يدى ..
وسألته :
ـ ماذا تقول ..؟
ـ أقول مقتضيات الذوق تقضى بأن أعطيك نقطة مثلهم ..
ـ ولكنى لم أرقص لك .. فكيف تنقطنى ..؟
ـ لقد استمتعت بما هو أجمل من الرقص .. فى الواقع .. وأجمل من كل الأشياء التى فى الحياة ..
ونهض وجمع النقود التى فى الصحن ووضعها فى منديل وتركته يفعل ذلك ثم سألته بعد أن رأته يقدم جنيهين ورقا :
ـ أو تأخذها ..؟
ـ أجل ..
ـ لماذا ..؟
ـ إننى فى حاجة إليها ..
ـ لتحولها .. إلى ذهب ..؟
ـ لأعيدها إلى رصاص .. كما كانت ..
وابتسم فى ألم ..
وظل واقفا لا حراك به وهى تراقبه فى صمت .. ولا تستطيع أن تفهم الأمر كله .. ومد لها يده وفى عينيه نظرة توسل ..
وأدركت أن إنسانا شقيا ضالا يقف أمامها .. ولا تدرى ما تفعله لأجله ..
وقالت وهى ترى قميصه المتسخ والشعر الخفيف النابت على ذقنه :
ـ هل تحقق لى رغبة ..؟
ـ إنى طوع أمرك ..
ـ أخلع قميصك لأغسله .. وأكويه ..
ـ سأجىء مرة أخرى .. وسأترك لك القميص .. وسواه ..فأنا فى حاجة إلى عملية تطهير كاملة لأسترد روحى التى ضاعت ..
ـ حقا ..؟
ـ أقسم لك ..
وسار وحده فى اتجاه المحطة ..
ووقفت على الباب تشيعه بنظراتها ..
وعندما اقترب من الترعة أخرج المنديل الذى وضع فيه العملة الجديدة من جيبه وألقى به فى الماء ..









ـــــــــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 857 فى 8/4/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ














الزورق




المندرة ضاحية جميلة على الكورنيش .. ومحطة صغيرة على خط أبو قير .. ومنذ سنوات .. كانت منعزلة تماما عن الإسكندرية ولا تصل إليها إلا عن طريق القطار .. ثم زحف عليها العمران وامتد خط الأتوبيس .. وتدفق إليها المصيفون وأصبحت أشد ازدحاما من الشاطبى ..
     وكانت الضاحية المنعزلة .. أجمل فى الأيام الخوالى من القائمة الآن .. وأكثر بهجة ..
     كانت شوارعها الضيقة هادئة جدا .. وتحس فيها بالسكينة التى ينشدها المصطاف ..
     وإذا خرجت فى الليل على ساحل البحر .. ترى الطبيعة متجلية والقمر يسكب شعاعه الفضى .. والرياح رخية .. ورشاش الموج يداعب العذارى ولا يخيفهن ..
     وترى هذه الصورة الرائعة لليل الساكن والنجوم الملتمعة على صفحة الماء وهى تتموج كأنها الزمرد على أرض الماس ..
     أما الآن فإن الأنفاس المتزاحمة قد أفسدت الجو كله وخنقته .. وحجبت الطبيعة الضاحكة عن العيون ..
     وفى خلال هذه العزلة الحالمة استمتعت بأيام بهيجة فى الضاحية وكنت أقيم فى فيلا متأنقة من طابق واحد .. ومع أنها تبعد عن البحر بمقدار فرسخ ولكنها أكثر شاعرية بجدتها وأناقتها من المنازل القائمة على سيف البحر ..
     وفى صيف عام 1946 وجدت أن صاحبها قد باعها وأقام فيها المالك الجديد .. فاضطررت أن أترك حقيبتى عند " بقال " أعرفه .. وانطلقت أتلمس اللافتات .. فعثرت بعد جولة قصيرة على شقة صغيرة وراء شريط السكة الحديد .. ولم يكن يعنينى البعد عن البحر ولا أحسب له حسابا وسألت عن صاحبها .. فعرفت أنه رجل يشتغل بالتجارة وله دكان فى سوق العطارين ولكنه لا يذهب إليه إلا قليلا وتركه لشخص آخر يديره الآن وهو يقيم فى الطابق الثانى من نفس المنزل الذى فيه الشقة الخالية ولو صعدت إلى فوق قد أجده أو أعرف مكانه .. وقرعت الباب .. وخرجت علىّ سيدة متوسطة العمر فى رداء طويل الأكمام .. ورأيت فى عينيها الذعر ..
     فلم أطل الوقوف على بابها .. بعد أن علمت أن الرجل غير موجود ..
     وقالت لى بصوت كالهمس أن أعود فأجد الرجل بين الرابعة والخامسة مساء .. أو أن أذهب إليه فأجده يصطاد فى البحر عند الناحية الغربية من السراى .. فآثرت أن أنطلق إليه على التو ..
     ولم يكن العثور على السيد خيرى بالأمر الصعب فقد وجدت شخصا ضئيل الجسم فى سروال قصير وقميص مفتوح يلقى السنارة وعيناه ترمقان السمك فى قاع الماء ..
     ورفع ذقنه المدببة وأنا اقترب منه وسدد إلىّ عينين خضراوين فيهما من التأمل أكثر مما فيهما من التساؤل ..
     ولما أفهمته طلبى ظلت يده على السنارة .. ولا يبدو عليه أى اهتمام بى كأنه اعتاد على السؤال عن الشقة وإيجارها وغدا لا يحفل بالأمر .. فلما وجدنى لا أنفر من لهجته الجافة فى الحديث وأقبل الإيجار الذى طلبه دون مساومة رفع إلىّ وجهه ليفحصنى ببصره من جديد .. ولاحظت فى هذه اللحظة ندبة فى حجم العشرة قروش على الخد وشاربا صغيرا يتدلى بجانب فمه ..
     وسألنى :
     ـ هل تريد استئجار الشقة من منتصف الشهر ..؟
     ـ من اليوم .. إذا تفضلت .. فقد تركت حقيبتى عند البدال ..
     واستمهلنى لحظات ليفرغ مما فى يده .. ولما وجد أن الأمر سيطول جذب السنارة .. وأمسك بجرابه بيده اليسرى .. ورأيته قبل أن يترك الشاطىء يسدد نظره إلى بعيد فتتبعت بصره فألفيته يستقر على زورق فى عرض البحر وكان ساكنا لا يتحرك .. مربوطا فى عوامة سوداء ..
     وبدا الزورق باهت اللون وقد ذهب طلاؤه الخارجى ولكن شراعه كان جديدا وحباله مشدودة ..
     وسألته :
     ـ هل هو ملكك ..؟
     فقال ضاحكا :
     ـ إنه ملك البحر .. ولماذا السؤال ..؟
     ـ أود لو أخرج به فى جولة ساعة الغروب ..
     ـ وهل تجيد التجديف ..؟
     ـ إننى ملاح .. ماهر .. وكثيرا ما خرجت بالزورق فى النيل ..
     ـ من السهل هنا أن تعثر على زورق آخر ..
     ـ وهذا ..؟
     ـ هذا قديم وممتلىء إلى نصفه بالماء .. ولا يصلح للنزهة ..
     وتوقف برهة ليشعل سيجارة ثم استأنف السير على الرمال الناعمة ..
     ولاحظت وهو يمشى ركبتيه العاريتين وعظامه المعروقة .. ولحمه الذى احترق من الشمس وتملح بماء البحر ..
     وكان عارى الرأس وشعره يزحف على صدغيه وعنقه .. وأذنه الصغيرة كأنها تلتقط الصوت على موجات الأثير ..
وكان لا يلبث يتلفت إلى ناحية البحر كلما أبعد عنه وتوغل مقتربا من الشريط الحديدى ..

*** 
وبلغنا المنزل .. وفتح لى باب الشقة ودخل معى ليرينى محتوياتها ثم ترك لى المفتاح وخرج وكانت الشقة طيبة الهواء ومفروشة ببساطة وأناقة وحبب لى هذا الجو الجميل .. القعود فيها والاستمتاع بها ..
وفى خلال الأيام الأولى قضيت الوقت بين البيت والبحر .. وكان المصطافون من القلة بحيث عرفت وجوههم جميعا .. ولم يكن فى مسكن السيد خيرى غير السيدة التى فتحت لى الباب أول مرة .. وكانت لا تبرح بيتها إلا قليلا ..
وما رأيتها إلا ورأيت الذعر يطل من عينيها كأنها تتوقع منى صفعة ..
وكنت أتأملها من الشرفة العلوية وأنا راجع من البحر فى الأصيل فأراها تودع الشمس الغاربة بنظرة حزينة وكان لها عينان واسعتان جدا وأنف دقيق وشفة رقيقة عليها شىء من الأسى الأخرس .. ولم تكن تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها ..
وكلما التقيت بها عرضا على السلم أو فى مدخل البيت كنت أكتفى بالتحية العابرة ولم تكن نظرتها المذعورة تشجعنى على الحديث أبدا ..
وكان من عادتى أن أتمشى على البحر فى هدأة الليل .. وأرى الساحل الرملى يتكشف أمامى ويطوى مع الموج .. والقمر يبدو صغيرا شاحبا .. وأنفاس الليل ترطب الوجوه .. وتنعش النفس .. وفى أثناء روحاتى وغدواتى كان حارس الساحل بوجهه الجامد وعينيه النفاذتين هو الشىء البارز وكان يذرع المكان فى خطوات منتظمة .. وهو الشخص الوحيد الذى كنت التقى به فى هذه الساعة وكان يتناوب الحراسة فى الليل مع حارس آخر أقل منه جسما وسحنة وأقرب إلى البشاشة ..
وكان إذا اشتد الظلام يرتقى سور الكورنيش ويسير عليه وعيناه ترقبان البحر جيدا وأذناه تنصتان إلى كل حركة على الساحل ..
وكان كل شىء يمضى على سننه فى سكينة مألوفة وكان ظلام البحر المهول يطوى الرؤية ويحجب عن العين كل ما تتوق إلى رؤيته .. ويبدأ البرد فى النزول من السماء ويصبح البحر مخيفا وفى تلك الساعة كنت أتجه إلى البيت بخطى ثقيلة ..
وحدث فى ليلة من الليالى .. وأنا أضع رأسى على المخدة أن سمعت صرخة فوقى أفزعتنى فنهضت من الفراش .. وفتحت باب الشقة وسمعت على السلم صوت خيرى وهو يسب المرأة ويضربها .. فصعدت إلى فوق ولكنى توقفت على الباب مترددا فى طرقه .. وكان صوت الصراخ قد انقطع فرجعت إلى مكانى وقد وجدت من الأحسن ألا أتدخل بين الرجل وزوجته ..
وتكرر سماعى لصراخها وضربها فى عدة ليال أخر .. وأصبح ذلك شيئا مألوفا لدى كما هو مألوف للجيران القريبين منا ..
وأخذت أسأل عن الرجل حتى عرفت أن هذه السيدة ليست زوجته وأنه كان يعمل منذ خمسة عشر عاما فى مدينة المنيا .. فالتقى بها فوقعت فى غرامه وتركت زوجها وطفلها الصغير .. وهربت معه إلى طنطا ومن وقتها انقطعت أخبارها عن أهلها .. ولم تستطع العودة إليهم واعتبروها فى حكم الميتة ..
وظل يتنقل بها فى البلاد .. ثم استقر به المقام أخيرا فى الإسكندرية ..
وعاش معها هنا فى هذه الضاحية ولكنه لم يتزوجها .. وقلب لها ظهر المجن وأخذ يسومها العذاب ويعاملها بذلة .. وعاشت معه وهى تتصور جميع الناس يعرفون فعلتها فانزوت .. وانكسر قلبها وتحطم ..

*** 
كان الرجل قد ترك دكانه لغيره ولا يذهب إلى السوق إلا قليلا .. ويقضى معظم وقته فى الصيد ..
وكنت كلما خرجت إلى الساحل .. أشاهد الزورق مطوى الشراع هناك فى نفس المكان ..
ولكن فى ليلة مظلمة وجدته قد أقلع وترك مكانه ..
وفى الصباح وجدته قد عاد إلى موضعه كأنه ما تحرك بالأمس ..

*** 
وفى عصر يوم وكنت أقطع شريط السكة الحديد متجها إلى البحر وجدت السيد خيرى يجلس فى مقهى صغير على ناصية الشارع يدخن النرجيلة فجلست معه أتحدث وقال لى أن النرجيلة أغنته عن التدخين وشرب السجائر بكثرة وكان يدخن أربعين سيجارة فى اليوم على الأقل فتمزق صدره ..
وأخذ يحدثنى عن السمك ولذة الصيد .. وركوب الأخطار فى سبيل الحصول على صيد ثمين ..
وكيف أن البحر الأبيض مأمون العواقب إذا قيس بالبحر الأحمر وفيه حيوان القرش .. وأنه كثيرا ما عرض نفسه للهلاك وهو يصطاد بالزورق .. ثم آثر أخيرا السلامة واكتفى بأن يشبع هوايته بها على الساحل ..
والصيد فن .. وليست المسألة مسألة القاء السنارة فى الماء وانما تظهر البراعة والخبرة فى اختيار المكان .. وحركة اليد والصبر الطويل حتى تقع الفريسة فى الفخ ..
وتركته والشمس ترسل آخر شعاع لها على الرمال الناعمة ..
*** 
وذات ليلة وكان القمر قد تدلى فى الماء .. تركت ساحل البحر وقبل أن أغيب فى جوف الضاحية .. سمعت صوت النار بشدة من ناحية البحر فرجعت أنظر .. فألقيت الحارس الرابض على الشاطىء يطلق النار إلى ناحية البحر وزورق صغير يتفادى النيران المصوبة إليه ويسرع فى الظلام وقد استعان مع الشراع بالمجداف ..
وتمزق الشراع وحوصر الزورق وسحب إلى الشاطىء ..
وتجمع الناس على الساحل وأخرج خفير السواحل من الزورق خيرى مقتولا .. وأكداس من المخدرات المهربة .. وكان قد التقطها من أحد المراكب الشراعية التى تمر فى عرض البحر ..
*** 
وفى مساء اليوم نفسه بعد أن هبط الظلام شاهد الحارس جثة امرأة يقذفها الموج .. وتنطح برأسها الزورق الذى ربط بالساحل ..
وكانت هى السيدة التى تعيش معه ..
لم يكن أحد يدرى أكانت هذه المرأة مع خيرى فى الزورق أثناء المعركة مع حرس السواحل أم أنها القت بنفسها فى البحر حزنا عليه بعد أن علمت بمقتله ..








ــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . المساء بالعدد رقم 1446 بتاريخ 7/10/1960 وأعيد نشرها فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــ












امرأة فى الظل 




     فى ليلة من ليالى السبت .. قصدت مصورا أعرفه فى شارع عبد الخالق ثروت فلما طرقت الباب لم أجده ..
     وكنت أحتاج لهذه الصور لأمر عاجل .. فملت إلى الشارع المجاور أبحث عن مصور آخر ..
     ولمحت لافتة صغيرة على باب منزل فى شارع النمر .. وكان المصور .. فى الدور الثانى من بناية قديمة .. فصعدت إليه فى الحال ..
     وطالعتنى الرطوبة .. من جوانب السلم ورائحة الجدران المتآكلة .. وعندما دخلت الشقة .. لم أكن أقدر أبدا أن أجد أحدا يتنفس بداخلها .. فقد واجهنى الظلام والسكون .. وخنقنى هواء راكد كهواء الكهوف الموحشة التى لا تعبرها قدم وشعرت بقشعريرة .. ومع أنى لا أخشى الظلام .. وقد ألفت ما هو شر منه فى ليل الريف ولكنى خفت وأنا أتقدم فى الطرقة .. فى هذا البيت الذى تصورته غير مسكون .. والخوف الذى تملكنى فى تلك الساعة شلنى وأوقف سلسلة أفكارى .. وجعل شعر رأسى يقف كالإبر ..
     إنه خوف قاتل .. خوف لايدرى الإنسان مبعثه على التحقيق .. أهو من الظلام أم من السكون .. أم من رهبة الصمت ..
     ولم أعد أحس إلا بوقع أقدامى .. ومع أنى حبستها جدا ولكن السكون جعلنى أحس بها شديدة وهى تقرع البلاط ..
     وشاهدت وأنا أحدق فى الظلام .. بصيصا من النور فى الداخل فلما اقتربت منه .. رأيت بابا قديما مواربا .. ودفعته .. فأصر .. صريرا أزعجنى .. وزاد رعبى ولكنى تقدمت أخوض فى الظلام ..
     فلما قطعت بضع خطوات أخرى .. وجدت على الضوء الشاحب .. مكتبا قديما وأمامه كرسى من الجلد .. أقدم منه .. وعلى المكتب أوراق .. وصور ومظاريف فارغة .. وبعض الأقلام والألوان ..
     ولم أجد أحدا فى الغرفة ..
     وبحثت بعينى فى كل مكان .. فلم أجد غير الصور المعلقة على الجدران .. ووقفت أحدق فى كل شىء ..
     وفكرت فى أن أعود وأترك المكان لولا أننى لمحت من ممر جانبى هناك رجلا يدفع ستارا .. ويتقدم نحوى فى بطء شديد .. وكان بدينا متوسط الطول .. وملامح وجهه صارمة ولكنه لما اقترب منى لانت ملامحه بعض الشىء .. ولاحظت أن فى فمه سيجارة .. وأنه يميل بجذعه إلى الأمام .. كأنه يدفع شيئا بصدره ..
     وظل يدخن وهو ينظر إلىَّ فى صمت .. ثم استدار وجلس إلى المكتب .. بمثل حركة الطبيب وهو يستقبل المريض .. ويستوضحه عن علته ..
     وقلت له .. وقد بدأت أتضايق .. من رائحة الدخان المنبعث من سيجارته ..
     ـ أريد ست صور ..
     ـ الستة بثلاثين قرشا .. وال 12 بخمسين ..
     ـ أريد ستة فقط ..
     ـ تفضل ..
     ونهض عن كرسيه .. والسيجارة لا تزال فى فمه .. ودخل بى فى نفس الممر المظلم الذى خرج منه .. لينفذ إلى الأستوديو ..
     وشعرت بالخوف الغريزى يعود مرة أخرى .. وتصورت أننى ذاهب وراء هذا الرجل إلى المشنقة ..
     ولم أكن أدرى السبب فى ذلك .. رهبة المكان وظلامه .. أم صمت الرجل .. والسيجارة التى لا تفارق فمه .. هى التى جعلتنى لا أستريح إليه ..
     ولكن لما دخلت الأستوديو .. استرحت .. فقد كانت الإضاءة رائعة حقا .. واستعدادات الرجل الفنية عظيمة .. والآلة نفسها من الآلات النادرة حتى وقفت أنظر إليها فى تعجب وقال لما رآنى أجلس على الكرسى .. مباشرة :
     ـ تستطيع أن تسرح شعرك أولا .. هناك ..
     وأشار بيده .. إلى طاولة فى أقصى القاعة ..
     وعندما اقتربت منها وجدت مائدة حافلة للزينة فيها كل ما تتزين به النساء ..
     ووقفت أتأمل بعيدا عنه ..
     ورأيت فى هذا الركن من القاعة صورة لوجه سيدة .. وقد خيم عليها الظل .. ورغم الظلال الساقطة من كل جانب .. ولكننى تبينت عينيها بوضوح وكانتا تنظران إلىَّ مباشرة بسحر لا يوصف ..
     وكانت الصورة لقطاع من الوجه فقط .. ولم تبرز شيئا آخر من جسم الحسناء .. وكان إلى جانبها صور كثيرة لنساء فى أوضاع فنية مختلفة .. وبعضها فى عرى كامل ..
     وكلها تدل على براعة فى التصوير ..
     ولما جلست على الكرسى أمام الكاميرا .. وسلط علىَّ المصور الأضواء ترك العدسة أكثر من مرة .. ليرفع رأسى أو يخفضها ..
     ولاحظت وهو يقترب منى .. أن يده عبثت بطرف سترتى مما يلى العنق وهى ترتعش فى انفعال .. وكانت حركة عصبية لا تصدر إلا من شخص فقد السيطرة على أعصابه تماما ..
     وكان صوته فيه بحة وهو يقول لى :
     ـ ارفع رأسك قليلا ..
     وأحسست بيده .. كأنها تتصلب .. ثم تركت السترة ولما دخل فى جوف الآلة ليضع الزجاجة اللاقطة .. كنت أود أن أهرب من الغرفة .. فقد عاد إلىَّ الرعب المجسم .. ولكننى لم أستطع الحركة وتصلبت فى مكانى .. حتى التقط الصورة ..
     ودخل مرة أخرى فى الظلام الذى يفضى إلى المكتب .. وقال والسيجارة لاتزال فى فمه :
     ـ يوم الثلاثاء الساعة السابعة مساء .ز
     ـ ألا يمكن قبل ذلك ..؟
     ـ لا أستطيع .. عندى شغل كثير ..
     ـ هل تحب أن أدفع شيئا ..؟
     ـ كما تشاء ..
     ودفعت له المبلغ كله .. فألقاه أمامه على المكتب .. مختلطا بالأوراق دون اكتراث .. وعندما تركته ومشيت فى الدهليز المعتم مرة أخرى .. كنت أسرع فى مشيتى .. وعلى باب الأستوديو الخارجى .. التقيت بسيدة مصرية داخلة .. ونظرت إلىَّ .. وتذكرت من نظرتها أننى رأيت هاتين العينين ..
*** 
     وعندما جئت إلى الأستوديو .. فى مساء يوم الثلاثاء .. لأخذ الصور وجدت هذه السيدة جالسة أمام المصور ..
     واستطعت أن أملأ عينى منها هذه المرة .. وتذكرت أنها نفس الصورة المعلقة فى الظل .. وكانت ترتدى فستانا أسود من قطعة واحدة قصير الأكمام .. ضيقا عند العنق .. ووجهها أبيض مستطيل .. وشعرها طويل .. وقد تركته من غير أن تربطه ..
     وكانت هادئة وديعة .. ومن عينيها يطل السحر والجمال كله ..
     وكانت تحادثه ويحادثها فلما دخلت عليهما صمت .. واكتسى خداها بلون التفاح ..
     وفتح المصور درجا وقدم لى الصور .. وهو يقول :
     ـ إذا راقتك .. نكبر لك واحدة ..
     ـ ومتى آخذها ..؟
     ـ بعد أسبوع ..
     ـ وقبل ذلك ..
     ـ لا .. يمكن أبدا ..
     ـ وكم تأخذ .. على الصورة الواحدة ..
     ـ خمسين قرشا ..
     ودفعت له المبلغ .. وأبقاه أمامه فى غير اكتراث كالمرة السابقة ..
     وكانت السيدة ترقب حديثنا فى انتباه ..
     ولما خرجت من الأستوديو تركتها مع المصور .. ولكن تيقنت أن ألفة نشأت بيننا فى خلال هذا اللقاء العابر ..
     ولم أذهب إلى الأستوديو يوم الثلاثاء .. كما اتفقت مع المصور .. لأخذ الصورة الكبيرة .. وإنما شغلت عنه بأمر وذهبت إليه يوم الخميس ..
     وكانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساء .. وشممت رائحة الرطوبة على السلم مرة أخرى .. وطالعنى الظلام ..
     وكان باب الأستوديو الخارجى مغلقا .. ولكن لما دفعته انفرج ..
     ودخلت فلم أجد أحدا ووقفت فى الطرقة .. أجول ببصرى وأتسمع .. وأخيرا أتى لى صوت من الداخل .. وكان وانيا خافتا كالهمس .. ثم ارتفع .. وسمعت صوت المصور بوضوح .. ثم سمعت صرخة حادة .. مزقت السكون ..
     فجريت إلى الداخل ورأيت فى الضوء الشاحب .. السيدة المصرية .. التى شاهدتها معه فى المكتب .. وكانت تضم عليها ثوبها فى فزع .. والمصور يحاول أن يعريها من كل ملابسها .. وكانت تقاومه بأسنانها ويديها .. وهو يزداد جرأة .. ولما شاهدتنى زاد صراخها .. وحاولت أن تفلت منه .. ومدت ذراعيها نحوى ..
     وبحثت عن شىء أضربه به .. وأخيرا لكمته على فكه لكمة قوية .. فتركها وسقط على الأرض ..
     وشعر بالخزى لما استرد أنفاسه ورآنى ..
     وجرت السيدة مفزوعة .. إلى الخارج وهى تبكى فلحقت بها ..
     وقالت :
     ـ لابد أن أبلغ البوليس .. هذا الخنزير .. حضرتك شاهد ..
     فقلت لها بهدوء :
     ـ لا داعى لهذه الفضيحة .. والشر كله .. سيعود عليك ربما كذب وقال أنك طلبت أن تتصورى بهذا الوضع .. فلما سمعت أقدامى صرخت ..
     ونظرت إلىَّ وأحمر وجهها .. وقالت :
     ـ يكذب هكذا ..
     ـ طبعا .. والآن أصلحى هندامك .. وسأرافقك إلى التاكسى ..
     وأخذت تستعيد زينتها .. ثم نزلت معى .. السلم .. وقلت لها .. بعد أن رأيتها عادت إلى هدوئها :
     ـ هذا درس لك .. والمرة القادمة .. لا تدخلى استوديو .. وحدك .. أبدا .. ليكن معك أى شخص ..
     ـ طبعا ..
     وظلت فى الشارع .. حتى أركبتها تاكسى وجعلتها تنتظر بداخله إلى أن أرجع إليها ..
     وعدت إلى داخل الأستوديو .. فوجدت الرجل منكمشا فى مكتبه وقد شعر بالخزى ..
     وسألته :
     ـ كبرت الصورة يا خواجه ..؟
     ـ أجل ..
     وبحث فى المكتب .. وأخرجها إلىَّ وقد احتقن وجهه ..
     وقلت له بحدة :
     ـ هل تعمل هذا مع كل سيدة تأتى إليك وحدها ..؟
     ـ بالطبع لا ..
     ونكس رأسه .. ولما رفع عينيه وجدته يبكى ..
     وسألته :
     ـ لماذا .. تفعل هذا الشىء الزرى .. وتعرض نفسك للعقاب ..؟
     ـ شعرت برغبة .. لم أقو .. على دفعها ..
     ـ رغبة مجنونة ..
     ـ رغبة مجنونة حقا .. لقد صورت هذه السيدة منذ اسبوعين .. صورت وجهها من جانب الظل .. وقلت لها بعد أن رأت جمال الصورة .. أن وجهك .. مواجهة .. سيكون أروع .. واقتنعت .. وجاءت .. وعندما وقفت أمامى .. تملكتنى الرغبة المجنونة .. بأن أعريها من ثيابها .. وأراها عارية .. كما وجدت مرغريت ..
     ـ من هى مرغريت هذه ..؟
     ـ إنها زوجتى .. وقد وجدتها عارية .. فى أحضان رجل آخر .. ولم أقتلها بالطبع .. ولم أقتل عشيقها .. ماذا يجدى القتل .. تركتها .. وطلقتها .. ومرت السنوات .. وكنت أتصور أننى نسيت الحادث ..
     ولكننى وجدت نفسى أحاول .. أن أعرى كل امرأة تقف أمامى .. لأصورها .. وبعضهن يقبل هذا عن رغبة .. وبعضهن يقبله بالإغراء .. لإظهار فتنة الجسد .. وبإغراء المادة ..
     ولكننى صدمت .. لما قاومتنى هذه .. عرضت عليها عشرة جنيهات .. وعشرين .. وكنت أود أن أراها عارية .. دون أن أصورها .. ولما رفضت أخذت أجردها بقسوة .. فصرخت .. أنها فتنة .. هل ذهبت لتشكونى للبوليس ..
     ـ بالطبع وسأكون أنا الشاهد ..
     ـ بعد أن شرحت لك .. ظروفى .. أنا مريض ..
     ـ أنا لست طبيبا نفسيا .. وعملك لا يغتفر مهما تكن الظروف ..
     ـ أنا فنان .. ومريض .. وأنا لم أسىء إليها ولم أصورها عارية ..
     ـ هل عندك صور لها ..؟
     ـ أجل .. عندى ..
     ـ إنها تطلب هذه الصور .. بلوحاتها الزجاجية .. وستنسى ما حدث ..
     ونهض مسرعا .. وجاء لى بصورها .. واللوحات الزجاجية .. وحملتها جميعا إلى السيدة ..
     وقلت لها :
     ـ هل هذه كل الصور ..؟
     ـ ونظرت إليها ثم قالت :
     ـ أجل .. وكيف أشكرك ..؟
     ـ باعطائى صورة كتذكار ..
     ـ تفضل اختر .. ما تشاء ..
     وأخذت صورة وضعتها فى جيبى ..
*** 
وبعد ذلك بأسبوع وجدت هذه السيدة داخلة السينما .. وكان معها رجل وطفلان ولا شك أنه زوجها .. وعندما وقع بصرها علىَّ احمر وجهها ..
وكانت صورتها لاتزال فى جيبى .. فتأخرت عنها خطوات .. حتى صعدت السلالم إلى البلكون ..
وأخرجت الصورة من جيبى ومزقتها ..
وشاهدت السيدة هذه الحركة وهى تستدير على البسطة الأخيرة فى السلم الدائرى .. فتلفتت وألقت علىَّ نظرة .. فيها امتنان .. وفيها تلك الفتنة الآسرة .. التى فتنت من قبل ذلك المصور المسكين ..




ــــــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ــــــــــــــــــــــــــــ



الرجل الأعزب


     فى وقت العصارى .. وفى بداية الصيف كانت سيارة أجرة صغيرة تسرع على الطريق الزراعى المرصوف .. الملاصق لخط سكة حديد رشيد ..
     وكان الطريق يبدو خاليا الا من عربات النقل التى تمر من حين إلى حين محملة بالأخشاب .. والدريس والأسماك .. وفناطيس البترول ..
     وكانت الرمال البيضاء تلتمع تحت الشمس .. تبدو للراكبين فى السيارة كبحر من اللجين ..
      وعند أدكو تمهلت السيارة .. واشتم المسافرون الثلاثة أنفاس البحيرة وشاهدوا زوارق الصيادين طاوية أشرعتها وواقفة فى صف طويل قريبا من الساحل كأنها فرغت من كد النهار وتعبه ..
     وعندما خرجت السيارة من حدود أدكو أنطلقت كالسهم وركز السائق كل حواسه على الطريق وأطبق فمه .. وكذا جميع الراكبين معه .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..
      وأخذت النسمات الرطبة تصافح وجوههم فانتعشوا وأخذوا يتابعون مزارع الأرز والقمح والبرسيم التى يمرون بها فى الطريق ..
     ولم تكن تجمعهم أية صلة غير صلة الركوب من رشيد فى عربة واحدة ..
    وكان السيد / مهران المفتش السابق للرى أطول الراكبين فى السيارة قامة وأكثرهم هيبة ..
     كان ذاهبا إلى الإسكندرية لمهمة قصيرة تتصل بمعاشه .. إذ سيستبدل جزءا منه بمبلغ من المال يدفع منه أقساط الأرض التى أشتراها بالتقسيط .. وقد أشتغل بالأرض وأخذ يفلحها ويزرعها ..
    وانقطع منذ خرج من الوظيفة لشئون الزراعة.. وركبته الديون والهموم بسبب جهله وعدم خبرته .. ولكنه ظل فى الطريق .. يجاهد بكل ما يملك من حول ويشترى قطعة الأرض الجيدة لتكون عوضا له عن الرديئة التى أستنزفت ماله وجهده ..
     وكان أعزب وأخوه الأكبر إسماعيل عاش ومات أعزب .. وورثت معاشه الحكومة .. وكان المصير نفسه يعذبه ويجعله يفكر دوما فى أن يستبدل معاشه كل سنتين أو ثلاث حتى لا يتبقى منه شىء فى آخر أيامه ترثه الحكومة ..
     وكان السيد مهران فى الثالثة والستين من عمره ولكنه يبدو أصغر من سنه إذ كان طويلا قوى الجسم .. متين التركيب .. وكان كل من يراه وهو يمشى منتصب القامة منتظم الخطو يتصور إنه تخرج من كلية عسكرية ..
     وكان فى خلال حياته كموظف قد ذهب إلى كل مكان حتى تفتيش الرى بالسودان قضى فيه سنتين من عمره ..
     وأكسبه هذا التنقل صحة بادية .. إذ لم يكن يشكو من أية علة ولم يذهب إلى الطبيب إلا فيما ندر ..
     وكان يبدو شابا فى كل حركاته .. فى مشيته .. وفى نشاطه .. لذلك لم يعر باله إلى الكشف الطبى .. الذى سيتقدم إليه فى صباح الغد .. لأنه كشف قبل ذلك مرتين .. وكانت النتيجة مرضية ..
     وكانت السيارة الصغيرة تسرع على الطريق الضيق المرصوف .. وأنفاس البحر البعيد عن الركاب جدا بدت تدخل أنوفهم .. وكانوا جالسين فى صمت .. وكل راكب منهم يفكر فى خواطره وسوانح فكره .. وفيما هو ذاهب إليه ..
     وكان السيد مهران يعتزم أن يقضى ليلة واحدة فى الإسكندرية وبعد الكشف الطبى يرجع توا إلى عزبته .. إذ لم يكن يحب أن يمضى أياما فى الإسكندرية .. ويترك شئونه وزراعة الأرز والقمح للريح ..
     وكانت الطريق تدور وتلتوى أمام بصره وهو ينظر إلى زراعات القمح ويقارنها بزراعته .. وكان شغفه بالزراعة قد جعله يهمل هندامه فبدت بدلته غير مكوية ..
     وكانت السيارة وهى تقترب من المعمورة قد بدت تدخل مع أنفاس البحر .. وبدا البحر على الجانب الأيمن من الطريق .. ساكن الموج جميلا كالعروس الضاحكة ومياهه الزرقاء تبدو كصفحة السماء ..
     وعلى حين غرة اعترضت سيرهم سيارة كبيرة قادمة من الطريق المضاد وكادت تهشم سيارتهم وتسحقهم لولا أن السائق أنحرف بهم فى براعة وسرعة بعيدا عن الخطر الداهم ..
     وأغمى على أحد الركاب من هول المفاجأة .. وأخذ السيد مهران .. والراكب الآخر يسعفانه حتى أستفاق ..
     واستأنفوا سيرهم وأخذ السائق الذى كان ملجما لسانه طول الطريق .. يسب ويلعن سائقى سيارات النقل .. وحاملات البترول .. واقتربوا من المنتزه بحدائقه وأشجاره العالية ..
     وعندما دخلت السيارة المدينة كانت المصابيح تلمع فى الشوارع وبدت أنوار السيارات تسطع فى طريق الحرية ..
     وكان مهران قد زار الإسكندرية منذ ثلاثة شهور ولكنها لم تبد فى نظره جميلة كما هى الساعة .. كان الشارع الواسع بهيجا بعماراته وفيللاته .. والأشجار العالية .. تزينه .. وتزيده روعة ..
     وشاهد من نافذة السيارة فيللا صغيرة من طابقين بطراز عربى ، ولها حديقة مزهرة فتمنى أن يقيم لنفسه مثلها .. فى منطقة سموحة أو مصطفى باشا .. حيث الهواء والهدوء والجمال .. ويجعلها استراحة .. ويستريح فيها بعد كده وتعبه فى الأرض ..
      وبدت المدينة فى نظره جميلة قبل أن تزدحم بالمصيفين .. وتذهب نضرتها فى زحمة الناس ..
     وعندما نزل من السيارة فى محطة الرمل وجد السيد إبراهيم فى انتظاره.. وهو شاب نحيل .. وكان السيد مهران قد أدى له خدمة فى التفتيش ..
      وأصبح مهران كلما قدم الإسكندرية يسرع إبراهيم إليه ليساعده ويقوم نيابة عنه بكل أعماله .. فى إخلاص نادر ..
      وتناول من مهران حقيبته واتجها إلى البنسيون الذى اعتاد مهران أن ينزل فيه كلما هبط المدينة .. ويقع فى شارع صغير وراء فندق سيسل وتديره سيدة أجنبية عجوز ..
     وكان مهران يحب النزول فيه لهدوئه ورخصه فهو يدفع 35 قرشا فقط مع تناول الأفطار ويحس وهو يقيم فيه كأنه فى بيته ..
     وكانت العجوز تعيش فى غرفة من البنسيون وتؤجر الثلاث الباقية .. ونادرا ما تشغل الغرف كلها فى وقت واحد ..
     وعندما دخل عليها فى هذه الليلة .. شعر وهو جالس فى الصالة .. بوجود ساكن فى الغرفة المقابلة لغرفته وكان قوموسيونجيا .. يتجول ثم يرجع إلى البنسيون ليقضى ليلة أو ليلتين .. ثم يستأنف تجواله فى البلاد ..
     واغتسل مهران ونزل مع إبراهيم ليتعشى ويتجول فى المدينة قبل أن ينام ..
     وتعشى وحده فقد رفض إبراهيم بإباء أن يشاركه الطعام وجلسا على قهوة رويال .. ثم تركه إبراهيم .. بعد أن وعده بأنه سينتظره فى الصباح الباكر على باب المركز الطبى ..
     ورجع مهران إلى البنسيون .. وفتح الباب بالمفتاح الذى أعطته له المدام .. فلم يجدها ساهرة ووجد سيدة تجلس فى الصالة وحدها .. ولما مر بها حياها ودخل إلى غرفته ولكنه أبقى الباب مفتوحا ..
     فرأى هذه السيدة من مكانه وهى تتحرك فى الصالة .. وكانت شابة بيضاء طويلة .. لفاء العود .. سوداء الشعر .. وعلى خدها غمازتان مع أنف دقيق وشفتين فى لون الكريز .. وبصر بها تتحرك فى الصالة وتدخل غرفتها ..
      ونام مهران فى فراشه .. وهو يحس بتعب المشوار الذى قطعه بالسيارة .. ولكنه لم ينم نوما عميقا .. كان قلقا .. ويود أن ينهى الكشف الطبى سريعا ويعود إلى زراعته ..
     وفى الصباح .. نظر وهو خارج إلى أبواب البنسيون المغلقة .. ولعله كان يبحث عن المرأة التى بصر بها فى الليل ..
*   *   *
     وكانت ردهة المركز الطبى ممتلئة بمن جاءوا للكشف .. عندما دخل مهران من الباب .. وقابله إبراهيم على الفور ببشاشته ..
     وقال له :
     ـ ورق .. سيادتكم جاهز .. وستدخل حالا ..
     ودخل مهران حجرة الكشف .. فوجد سيدة ترتدى معطفا أبيض فظنها ممرضة فبحث بعينيه كأنه يود أن يسألها أين الطبيب ثم عرف بعد لحظات لما تحركت نحوه يالسماعة أنها الطبيبة التى ستكشف عليه ..
     وكانت قد لاحظت نظراته فظهر على وجهها الامتعاض ولم تستطع أن تكتم أنفعالها .. وكانت خمرية اللون متوسطة الطول .. أقرب إلى السمنة .. ووجهها مستدير .. حلو ..
     كان جمالها فى الواقع غريبا عنه .. فى هذا الجو .. فقد رأى من قبل حكيمات وممرضات فى المستشفيات وعيادات الأطباء ولكنه لم ير طبيبة بمثل هذه الفتنة ..
     ووضعت السماعة على قلبه .. وقالت له .. وهى تنظر إلى قامته كأنها تقيس طوله ..
     ـ تنفس ..
     فحرك صدره ..
     ـ كمان ..
     وفتحت شفتيها ثم زمتهما .. وانطبقت أهدابها ..
     فقال لها مهران وهو ينظر إلى الخرطوم المتدلى وفى طرفه السماعة ..
     ـ هذه هى المرة الرابعة التى أكشف فيها عن صدرى لطبيب ..
     ـ وكانت كلها للاستبدال .. ؟
     ـ للإستبدال والإجازات المرضية ..
     ـ ولغير هذا ..
     ـ لم يحدث ..
     ـ لم تمرض فى حياتك ..
     ـ ابدا وكل الأطباء الذين كشفوا على قبلك ماتوا ..
     ـ ماتوا .. ؟
     ـ ماتوا جميعا .. ولكن أنت جميلة .. وخسارة فى شبابك هذا أن يدركك الموت ..
     وقلبت شفتيها .. ولم تنطق ودونت شيئا على الورقة .. دون أن تنظر إليه ..
     وسألها :
     ـ ألبس .. ؟
     ـ نعم .. وتفضل .. إلى غرفة الأشعة ..
     وخرج من الغرفة فوجد إبراهيم ينتظره على الباب وسأله إبراهيم لما رآه مضطربا ..
     ـ انتهى الكشف ..
     ـ أجل .. وأحالتنى على الأشعة ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ كتبت على الورقة .. هبوط فى القلب .. أشعة ..
     ـ لا تفكر فى هذا .. سماعاتهم خاطئة فى معظم الحالات .. وسيطمئنك الرسم الكهربائى ..
     ولكن مهران رغم أن الشاب أستقبل الخبر ببشاشته المعهودة وطمأنه .. فإنه لم يطمئن وظل قلقا .. فهذه هى المرة الأولى فى حياته التى يسمع فيها هذا النبأ عن قلبه .. هبوط فى القلب .. ولماذا ..
     وظل يفكر فى الأمر .. وقد أحس بأنه شاخ فى ساعة وأضيف إلى عمره عشرون سنة أخرى ..
     وأركبه إبراهيم عربة إلى البنسيون وركب بجواره .. وعندما فتحت له صاحبة البنسيون الباب وجدته متجهما لأول مرة ..
     ورأى وهو داخل القومسيونجى يتحدث فى التليفون ..
ودخل مهران إلى غرفته وهو ساكن كالصنم ولاحظت صاحبة البنسيون وجومه فأخذت تحادثه هى وإبراهيم ويسريان عنه ..
     وكان مهران بعد أن بارح مركز الكشف يفكر فى أن ينتظر فى الإسكندرية نتيجة الأشعة .. ولكنه وجد أن بقاءه فى المدينة .. سيزيده هما وقلقا ويجعله يفكر دائما فى المرض ويضخم المسألة .. فقرر أن يشغل نفسه بالعمل فى الريف وأن ينسى الموضوع .. ويستغنى عن المبلغ والأرض الجديدة .. ويسافر إلى أدفينا فى الصباح .. يركب أول سيارة ذاهبة إلى رشيد أو يأخذ القطار ..
     وذهب إلى مطعم ليتعشى وهو مهموم .. فأكل كثيرا ولم يكن منذ ذهب إلى الريف يشرب الخمر .. ولكنه شرب فى هذه الليلة حتى أحس بأنه يعرق ..
     وكان إبراهيم يرافقه ويسرى عنه ويكرر قوله بأنه سيتعجل نتيجة الكشف ويزف إليه البشرى بسلامة القلب من كل مرض ..
     وكان الشاب صافى النفس يحب الرجل حقا .. ويذكر له صنيعه القديم .. منذ كان فى التفتيش .. فقد عينه فى وظيفته الحالية التى يعيش منها الآن .. ولولاه لما توظف قط .. ومن وقتها وهو يحفظ للرجل جميلة ويقوم له بكل الخدمات ..
     وكان مهران يراه المصرى الخالص الأمين الصافى النفس والقلب .. الذى لم يلوث طباعه وأخلاقه الأجنبى الدخيل ..
     وكان مهران فى كل مرة يجىء فيها إلى الإسكندرية .. يخرج للشاب من جيبه جنيهين أو ثلاثة لأنه يعرف أنه فقير ويعول والدته المريضه وأخته الصغيرة .. ولكن إبراهيم كان يرفض بإباء وشمم أية معونة ..
     وكان مهران يعجب لصفات الشاب ..
*   *   *
     وفى منتصف الليل ودع إبراهيم مهران على باب العمارة .. وصعد هو إلى البنسيون وأحس وهو صاعد بالقلق يعاوده ..
      ودخل البنسيون وهو يتمنى أن يجد العجوز ساهرة ليثرثر معها .. ولكنه وجدها نائمة .. وكان القومسيونجى قد ترك غرفته وسافر منذ العصر ..
     ودخل غرفته .. ولبس البيجامة وجلس على الكرسى الطويل يدخن .. وخيم على البنسيون سكون رهيب وراح الليل يمر متباطئا ثقيلا .. وأحس بحاجته إلى أن يشرب فنجانا من القهوة .. فكيف يشربه .. ؟ أيذهب إلى المطبخ ويبحث عن البن والسكر على الرف ..
     وسمع صرير الباب الخارجى فى هذه اللحظة وأحس أن شخصا يتسلل إلى داخل البيت ..
     وسمع أقدامها الخفيفة فى البهو .. ولم تكن إلا هى .. السيدة التى رآها بالأمس .. وهى عائدة من السينما .. أو من سهرة ليلية ..
     ودخلت غرفتها .. ثم خرجت إلى المطبخ ..
     وأحس بالصداع .. فمشى إلى المطبخ .. فوجد السيدة تضع شيئا على النار .. وخجل لما دخل عليها وهو لابس البيجامة ..
     وقال متلطفا :
     ـ أرجو المعذرة .. لإزعاجك ..
     ـ العفو أتريد شيئا .. ؟
     وكانت لهجتها مصرية خالصة ..
     ـ فنجان من القهوة .. أحس بصداع .. وارجو أن تدلينى على مكان البن والسكر لأصنعه بنفسى ..
     ـ حاضر .. تفضل استرح .. وسأحمل لك الفنجان إلى غرفتك ..
     ـ شكرا .. سأظل لأحمله عنك ..
     ـ المسألة بسيطة .. تفضل ..
     وظلا واقفين .. فابتسمت .. كان وجهها يشع نورا ..
     كانت بيضاء .. مثل الدكتورة التى كشفت عليه فى الصباح .. وأجابته بطعنة فى القلب .. ولكن هذه أطول قامة .. وأكثر أنوثة ..
     وسألت برقة .. قبل أن تضع البن ..
     ـ سكر .. زيادة ..
     ـ مضبوط ..
     ـ وأنا أيضا .. بشربها مضبوط ..
     ـ هذا جميل ..
     واستدارت بجانب الوجه .. ورأى ظل الأهداب .. على الخد الأيمن .. والأذن الصغيرة المغطاة بالشعر الغزير .. والبلوزة تضم الكتفين الرقيقتين والصدر النافر .. والجونلة التى انثنت مع استراحة الرجل .. وبدت استدارة الساق وفوقها التنورة الحريرية كأنما تلسعها نار الموقد فتبتعد بها .. وتقترب ..
     ورأى هذا كله فى ومض سريع .. ولما حملت الصينية برقة .. ومشت أمامه .. مشى خلفها وكان يتوقع أن تضع صينية القهوة فى الصالة .. ولكنها دخلت غرفته .. ووضعت له الفنجان على النضد ..
     وحيته بهزة من رأسها .. وخرجت حاملة فنجانها ..
     وتناول الفنجان .. وأخذ منه رشفتين ولكنه أحس بالتعب .. وبالصداع يزداد .. فأعاد الفنجان إلى النضد وأرتمى على المقعد وهو شاحب الوجه .. وأحس كأن الغرفة تدور به .. فتحرك دون وعى وضغط على الجرس الموجود قرب السرير .. وجاءت على أثره السيدة سريعا ..
     فأشار إليها بسبابته .. دون أن ينطق ..
     وسألته برقة ..
     ـ مالك .. ؟
     ـ أحس .. بتعب شديد .. دارت بى الغرفة ..
     ـ أشرب القهوة ..
     وسألها وهو يدير عينيه ..
     ـ أنا كنت هنا من ثلاثة شهور .. ولم أرك ..
     ـ جئت بعد ذلك ..
     ـ وحضرتك من إسكندرية .. ؟
     ـ من المنصورة ..
     ـ فسحة ..
     ـ أننى موظفة فى شركة باسكندرية ..
     ـ وتعملين الصبح .. وبعد الظهر ..
     ـ أجل .. ولقد أحببت الإقامة عند المدام .. لأنها هادئة .. ولا يوجد عندها أحد تقريبا .. ولذلك أنا أساعدها فى المطبخ .. وتأكل معى ..
     ـ إذا بقيت أياما سآكل معكما ..
     ـ أهلا .. يسرنا ذلك ..
     وكانت تود أن تستأذنه .. وتعود إلى غرفتها .. ولكنها رأت جبينه يعرق .. ووجهه يزداد شحوبا ..
     وكان وجود امرأة معه فى غرفته وفى سكون الليل .. قد جعله يضطرب .. فعرق .. وظهر الاضطراب على وجهه ..
     فسألته :
     ـ أتحس بألم ..
     ـ تعب .. هبوط فى القلب .. قالت لى الدكتورة اليوم هذا ..
     ـ لا تصدق هذا الكلام .. إنها مخطئة .. وجهك كالورد ..
     ـ مع الأسف إنى أصدقه .. إنى الآن فى فقر عقلى .. وأن خوفى من الموت ليشل جوارحى وقد فقدت كل صمام للأمان .. أشاعت بكلمتها الإضطراب فى نفسى .. واستولى علىَّ الذعر .. وأرجو أن تبقى معى قليلا حتى أنام .. أرجوك ..
     وظلت بجانبه .. تحادثه ..
     ودقت الساعة فى البنسيون الواحدة صباحا وكانت سعاد تنصت إلى صمت الليل .. وتحملق فى سماء الغرفة .. وفى الرجل الجالس فى سكون وسمعته يقول دون أن يحرك رأسه ..
     ـ لقد أربكت نفسى بشىء لم أخلق له .. ولو أننىبدل أن أشتغل فى هذه السن بالزراعة وبعمل لا أحسنه قط وليست لى به أية دراية .. مشيت بين الفلاحين وأخذت أشرح لهم كيف يقيمون الطنابير على المساقى ويشقون القناوات والجداول والترع الصغيرة .. لكان أكرم لى ..
     ـ لا تفكر فى المسألة هكذا ولا تجعلها تعذبك .. وأمامك الحياة .. لتعيش فى هدوء كما تحب وترغب ..
     ـ لا أدرى هل رغبتى فى أن أعيش ستجعلنى أعيش أم لا .. إن الحياة لا تتوقف على رغبتنا أبدا ..
ومن خلال الشباك الواسع كانت سعاد ترى البحر ..
     وقال الرجل وهو ينظر إليها ..
     ـ لقد وجدت الحياة لكى نعيشها ، ولكنى لم أعشها قط .. كنت أشق الترع .. وأقيم الجسور والقناطر وأرسل الماء إلى الجداول والقنوات لأسقى الزرع وأبعث فى النبات الحياة .. ولكننى نسيت نفسى .. وعشت فى ضحالة مفزعة وها أنذا كما ترين .. أموت .. ولولا أن اللّه أرسلك إلىّ فى هذه الساعة .. لمت وحيدا كما تموت الكلاب ..
     ـ لا تعذب نفسك .. وتفكر هكذا ..
     ورأت العرق يسح منه فحنت إليه .. وغلبها التأثر .. فأخذت تمسح عرقه .. وتزداد اقترابا منه .. وبصرت بالدموع تبلل خديه .. فحنت عليه .. وأحاطها بذراعية .. وبللت الدموع صدرها والجزء الأمامى من ثيابها .. وعندما ضغط عليها بصدره ودفن رأسه فى جسمها لم تبتعد عنه ولم تبد أية حركة مقاومة خشية أن يصاب بصدمة ويموت ..
       وكانت تتصور أنه لن يموت مادام فى أحضانها ..
     وأحست بيده تمسح برقة على ظهرها .. وذراعيها .. وجسمه يلتصق بها أكثر وأكثر .. واستسلمت له وهى لا تحس بأيه لذة حسية .. كانت المسألة بالنسبة لها تضحية وصلت أقصى مداها ..
     ونام هادئا ودثرته .. وخرجت إلى غرفتها ..
     وفى الصباح .. بحث عنها فى غرفتها .. فوجدها خرجت مبكرة إلى عملها ..
     وركب مثل السيارة الصغيرة التى جاءت به .. ليعود بها إلى رشيد .. ولما لم يجد ركابا غيره أستأجرها وحده ..
     كان يود أن يصل عزبته قبل أن تشتد حرارة النهار ..    وجلس على المقعد الخلفى مستريحا وهو يفكر فى أن يغير من أسلوب حياته ونهجه فى الحياة ..
     وكان السائق ينطلق بسرعة الريح فقد كان الطريق خاليا إلا من القليل من العربات وقبل أن يبلغ أدكو .. تمهل وتلفت .. فقد خيل إليه أن الراكب يناديه لشىء أصاب السيارة ، فوقف ثم نزل ودار حول السيارة واقترب منه يسأله عن الخبر .. ووجده .. ملقيا رأسه على صدره كأنه قد نعس .. ولكن لما حركة عرف أنه نائم النومة الأخيرة النوم الذى لا حلم فيه ولاصحو بعده ..







=============================  
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 27/5/1961 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " ليلة فى الطريق " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================



الـــرماد



     كانت الليلة شديدة الظلمة .. والريح تعوى فى البساتين .. عاصفة بأوراق الاشجار وسعف النخيل .. وكانت بداية رياح الخماسين على منطقة الصعيد .. ولم تخف وطأتها بالليل كما كان متوقعا بل ظلت تهب على قرية المعصرة محملة بالرمال والغبار ولم يكن للفلاحين سبيل إلى مقاومتها غير الاحتماء فى البيوت .. وحبس الماشية .. فى الحظائر .
     وكان الغبار الشديد قد حجب الرؤية تماما .. ولف القرية فى مثل الضباب الأشهب فزاد من وقع الظلام وخفت الرجل فى الدروب ولم يعد يسمع إلا نباح الكلاب .. كلما بصرت بشبح يتحرك فى جوف الليل .
     وكان هناك رجل يمشى .. فى قلب الزوبعة .. غير حافل بها ويتجه إلى القرية بخطى ثابتة وكان قد عبر النيل من البر الغربى فى زورق صياد رماه عند الغسق تحت القرية وظل الرجل فى مكانه تحت الريح حيث أخرجه الصياد منتظرا الساعة التى قدرها لتحركه .. ولما مالت النجوم انحدر سعيا إلى القرية..
     وكان نباح الكلاب يشتد وهو يقترب والظلمة تبدو أكثر جهامة .. ولكن الزوبعة كانت قد خفت نوعا وخف ما تحمله من أتربة وأصبحت الرؤية مستطاعة فى ظل الأضواء الشاحبة المطلة من طاقات البيوت .
     ولما أصبح على مبعدة نصف فرسخ من القرية جلس بجانب قنطرة هناك يدور بعينيه فى الظلمة وقد خلع البندقية عن كتفه .. ووضع العباءة الحمراء.. على الأرض بعد أن طواها طيتين .. وأمسك بخزان الرصاص يتفحصه ثم أداره على وسطه ، وأشعل سيجارة ثم أطفأ رمادها .. ونهض واتخذ طريق النخيل .
     وكان حسان يدخل قرية المعصرة لأول مرة منذ عشر سنوات .. مع إنها على مبعدة ثلاثة فراسخ من قريته ومتداخلة فى زراعتها ولكنه كان قد أقسم منذ أن قتل والده غيلة وهو راجع من السوق ألا تطأ قدمه أرضها إلا بعد أن يقتص لأبيه ويأخذ بثأره فقد كان حسان أكبر أخوته وكان عليه وحده أن يغسل الدم الذى لوث الأسرة ويمحو العار ..
     ولكن القدر كان له بالمرصاد .. فقد مات الرجل الذى قتل والده موتة طبيعية بعد شهر واحد من الحادث ولم يمزق جسمه الرصاص .. كما كان يتمنى .. وترك القاتل غلاما يدعى عباس فى الثانية عشرة من عمره .. وكان حسان يود أن يقتله .. ولكن أم حسان منعته من قتله حتى يشتد ساعد الغلام ويمسك البندقية مثله وهنا يتصارع الندان والا يصبح الثأر مهزلة وأضحوكة الفلاحين .
     ولما بلغ عباس مبلغ الرجال ترصد له حسان وعرف كل تحركاته فى الليل والنهار .. وخرج له فى هذه الليلة ليطارده ويرديه .. وكان الغضب يثير دمه .
     وتمثل له حادث مقتل والده الذى حدث منذ سنوات طويلة وكأنه قتل منذ ساعة فرجع يحرق الارم .. ويعض على نواجذه غيظا .. وتقدم بين أعراش النخيل .. حتى رأى نورا ينبعث من بيت صغير خارج القرية فاقترب منه .. فلما كان على بابه وجد طفلا صغيرا على العتبة . فطلب منه أن يشرب .. وخرجت أم الطفل بالكوز ووقفت سافرة تتأمل وجه الرجل الغريب وهو يروى ظمأه .
     وسألته :
     ــ هل أنت قادم من السوق ؟
     ــ أجل .. وتأخرت .. كما ترين ..
     ــ يبدو لى انك لم تشتر شيئا ..
     ــ كنت أود أن أشترى بقرة .. بدل التى نفقت فى « البرسيم » ولكننى وجدت البقر غاليا جدا .. فرأيت أن من الخير لى أن أشترى من سوق السبت..
     ــ اذهب .. إلى بيت عبد الصبور .. انه يتاجر فى البهائم .. وهو يستطيع أن يشترى لك بقرة رخيصة .. من منفلوط أو الحواتكة .. أو حتى من ديروط.. أنه يتردد على هذه البلاد كلها ..
     ــ فكرت فى هذا على التحقيق .. بعد أن خرجت من السوق
     ــ أو تعرف بيته .. ليذهب معك هشام ..
     ــ الشكر لك .. اننى أعرف مكانه .. وسأجده الساعة فى مقهى القرية .
     ــ أجل انك ستجده فى مقهى رميح .. يشرب الشاى هناك وربما كان يلعب الورق مع الفتيان .
     ــ كتر خيرك ..
     وحركت المرأة طرحتها ولمست بها شفتيها الرقيقتين .. وهى تتحدث كأنها تغطى أسنانها اللؤلؤية فتزيدها بريقا وصفاء أو تزيد من جمال وجهها .. وكانت ناضرة المحيا وهى سافرة .. ولكن هذه الحركة التقليدية زادتها فتنة .
     وكان حسان يرى فيها وجه أمه قبل أن تترمل .. ويذبلها الحزن والاسى .. بعد مصرع والده .. وشكرها وانصرف ..
وظلت المرأة تلاحقه ببصرها حتى بعد أن أبعد ودخل فى الظلمة ..
***
     وكان حسان يعرف أن غريمه عباس يجلس فى هذه الساعة فى المقهى الذى فى الدرب الرئيسى والذى يشق القرية نصفين يشرب الشاى .. ويتحدث مع الفلاحين فرأى أن يكمن له فى البستان الذى خلف القهوة حتى يخرج منها إلى الدرب . وهنا يرديه برصاصة مصوبة إلى القلب .
وجلس حسان فى البستان .. متلفعا ومتوثبا لغريمه .. وعيناه ترقبان فى حذر وتيقظ ..
     ومرت لحظات رهيبة كان يسمع فيها صفير الريح .. وعواء أشبه بعواء الذئاب .. ثم صرخات مكتومة كأنها خارجة من الجحيم ..
      وكان الليل يلف البستان فى شملته السوداء .. ومقابر القرية خلفه تبدو كأنها فاتحة أفواهها لكل نازل جديد .
     وكانت أوراق الشجر تتطاير تحته كلما سفعتها الريح .. وأحس برعشة وهو جالس وحده .. وخلفه المقابر .. وجرى فى حسبانه .. ان عباس قد لاتصيبه أول رصاصة .. وهنا يستدير إليه .. وقد يقتله .. وظل هذا الخاطر يعذبه .
      ولكنه استفاق منه .. وهو يتأمل سلاحه وكان من أحدث طراز من البنادق وعاوده الاطمئنان ولمح رجلا فى مثل قامة عباس يخرج من المقهى ويمشى فى الدرب .. فحدق فى الظلمة ويده على الزناد ولكنه تبين انه شخص آخر .. فتوارى خلف سياج البستان كما كان ..
     ومرت دقائق من الانتظار الرهيب .. كانت قاسية وشديدة الوقع على نفسه .. واشتاق لأن يدخن سيجارة ومع أن العلبة كانت فى جيبه ولكنه خشى أن يدل ضوء السيجارة على مكمنه فظل فى مجلسه قلقا  يمر بساعة الانتظار الرهيبة ..
*** 
     وفجأة أحس برائحة النار من حوله فاستدار برأسه فرأى دخانا كثيفا يتصاعد فى الجو ويدخل فى الظلمة .. ثم سمع على أثره صراخا .. ورأى ألسنة اللهب .. تتصاعد من مدخل القرية . والدخان يتجمع ويتلوى فى أعمدة ثم تحمله الريح إلى ناحيته .. والنار تزداد اشتعالا كلما هبت الريح ..
     وعندما وثب من مكانه .. وتطلع من مكان عال .. كان الجانب الشرقى من القرية يشتعل كله ..
     اشتعلت البيوت والأكواخ الصغيرة والكبيرة .. واشتعل الدريس .. وسعف النخيل واشتعلت حتى صوامع الغلال .
     وسحبت البهائم أوتادها وطارت بها وفزعت الكلاب .. وجرت الطيور على وجوهها مذعورة وهى ترفرف بأجنحتها وتصوصو .
     وكان الشرر يتطاير .. والدخان يحجب السماء ..
     وجرى الرجال والنساء وحتى الأولاد الصغار فى كل اتجاه يحملون القدور والبلاليص والدلاء ليكافحوا بها النيران ..
     وتجمعت جموع الناس تحت الوهج المشتعل ..
     ووقف حسان بعيدا خلف الجموع والبندقية لا تزال فى يده يرقب اللهب..
     ثم رأى شيئا جعله ينتفض .. فقد رأى المرأة التى سقته الماء منذ ساعة واقفة على الجسر .. تصرخ وقد شقت ثوبها .. وكان بيتها قد اشتعلت فيه النار وفى داخل البيت غلامها الصغير الذى رآه حسان .. ولا أحد يستطيع أن يجتاز حلقة النار .. ويدخل وسط اللهب لينقذه ..
     وكان صراخ المرأة يفطر الأفئدة ..
     ورأى حسان رجلا يندفع فى وسط اللهب .. وخيم السكون ووجفت القلوب .. وحدقت العيون ..
***
     وخرج الرجل من قلب النار حاملا الطفل على صدره .. وعرفه حسان .. أنه عباس الذى يطارده .. وبكت الأم من الفرح وتناولت طفلها ..
***
     ووقف حسان فى مكانه يتأمل المنظر لحظات ثم وجد نفسه يحرك أكرة البندقية ويخرج منها مشط الرصاص ..
     وكانت النيران مازالت تأكل بعض الجريد والدريس .. ولكن ثورتها قد خمدت تماما ..
     ولم يعد فى مقدورها أن تأكل شيئا آخر .. كانت قد تحولت ثورتها إلى رماد ..






===============================    
نشرت القصة فى صحيفة المساء 17/12/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة ليلة فى الطريق لمحمود البدوى سنة 1962
================================




ليلة فى الطريق

كان الأكسبريس السريع القادم من الشلال مكتظا بالركاب .. ولما بلغ محطة سوهاج كان كمسارى القطار يتحرك فيه .. بصعوبة .. ويستعين بالمساعد .. للتفتيش على العربات الخلفية .. ولكنه رغم هذا كان يعمل .. ويطبق قوانين المصلحة نصا وروحا على كل المسافرين ..
     وفى الطريق بين ملوى والمحرص ضبط سيدة تركب بتذكرة غير مخصصة للقطار وطلب منها 120 قرشا ليقطع لها تذكرة جديدة ..
     فارتعش فم السيدة ونظرت إليه مرتاعة .. فلم يكن معها سوى قروش قليلة ولم تكن تقدر أن الأمر سيتطور إلى هذا الحد المزعج ..
     وقالت بصوت خافت :
     ـ لم استطع ركوب القطار الذى سبق .. كان مزدحما ..
     ـ لكن يا ست كان ضرورى أن تعلمى على التذكرة من الناظر .. والآن هات ثمن التذكرة لمصر ..
     ورفضت السيدة .. وتدخل الركاب فى النزاع .. ولكن الكمسارى أصر على الدفع وإلا أضطر إلى أخذ السيدة إلى المحطة التالية .. وتحرك رجل كان يجلس فى نفس الديوان .. وأعطى خمسة جنيهات للكمسارى ليقطع منها التذكرة ..
     ونظرت إليه السيدة لتمنعه أو لتشكره ولكن شفتيها ارتعشتا مرة أخرى ولم تستطع النطق ونكست رأسها .. وكان مع الرجل طفلة فى الرابعة من عمرها فأخذتها السيدة فى حضنها لتخفى اضطرابها .. شعرت بالخجل لأن أنظار الجالسين والواقفين تركزت عليها أثناء جدالها مع الكمسارى .. وشعرت بالخجل أكثر لما قطع لها الرجل الغريب التذكرة وشعرت بالذلة لأن ملابسها البسيطة كانت تنطق بفقرها .. ولا تحميها من النظرات الفضولية التى سددت إليها كالسهام ..
     ولما رفعت وجهها بعد مدة طويلة إلى الرجل الذى غمرها بالإحسان لاحظت أنه يلبس كرافتة سوداء .. وكان التراب الكثير على سترته يدل على أنه ركب من بداية الخط ..
     وكان أسمر .. يقرب من الأربعين بادى الصحة مستطيل الوجه .. وفى خديه نمش خفيف .. وكانت عيناه هادئتين ضاحكتين .. وكانت ابنته الصغيرة .. أكثر منه حركة ..
     فمنذ أخرج الورقة المالية وهو ساكن يطالع جريدة الصباح فى صمت .. ولم ينظر إلى السيدة ولا إلى الركاب .. وفقط كان من لحظة لأخرى يحادث ابنته ليمنعها من الحركة ومن الخروج إلى الممشى ..
     ولما وقف القطار تلك الوقفة الطويلة فى محطة المنيا .. ونزل كثير من الركاب وركب غيرهم .. نظر إلى السيدة لأول مرة .. نظرة طويلة .. فلاحظ أنها شابة فى الثلاثين بيضاء البشرة .. وفى عينيها سواد كثير ورقة .. وكانت ترتدى فستانا أسمر من قطعة واحدة .. وفى يدها ساعة صغيرة ولا تتزين بغيرها فى المعصم .. واشترت السيدة للفتاة بعض الحلوى .. ثم تحرك القطار ..
     وظلت الطفلة فى حجر السيدة مستريحة وادعة .. وأخذت السيدة تحادثها .. ولاحظ أبوها أنها سألتها عن اسمها بصوت خافت جدا .. وسمع غمغمة وضحكا أشد خفوتا ..
     وبعد محطة بنى مزار أخذ القطار يتسحب .. ثم توقف فى احدى المحطات الصغيرة .. وعلم الركاب أن الخط معطل لأن الأكسبريس السريع القادم من القاهرة انقلب فى الترعة .. وينتظرون .. اصلاح الخط .. أو ركوب السيارات فى الصباح ..
     وخرج مصطفى من القطار ومعه ابنته ثريا .. وخرجت معهما السيدة أمينة فقد وجدت نفسها تتحرك مع هذا الرجل كأنه ملاذها الوحيد فى هذه الجهة ..
     وجلسوا فى احدى القهاوى المنعزلة الصغيرة على الترعة ليستريحوا .. وتعشوا ..
     وكانت السيدة أمينة قد استراحت إلى الرجل .. وإلى خلقه وشهامته .. وانسجمت معه حتى تصور الجميع أنها زوجته ..
     وبعد أن أذن العشاء .. نامت الفتاة فى حجرها ..
     وكلما حاول أبوها أخذها من حضنها رفضت ..
     كانت أمينة مسرورة .. وتود أن تشعر أنها ردت له بعض الجميل .. وطال جلوسهم على القهوة .. إلى الساعة التاسعة ليلا .. ثم وقف بجانبه غلام ليمسح له حذاءه .. وينظر إليه وإلى حقيبته .. وقال له :
     ـ عاوز لوكاندة يا بيه ..؟
     فاستغرب مصطفى ..!
     ـ فيه لوكاندة هنا ..
     ـ أيوه تفضل معايا .. عند الخواجه ميتو .. فى شرق .. المحطة ..
***  
     وعندما دخلوا الفندق الصغير وصعدوا درجاته .. لم يكن به أحد من النزلاء سواهم .. وكان صاحب الفندق قد تصور أن السيدة زوجة الرجل .. فأعد لهم الغرفة الوحيدة الفسيحة .. ودخلوا الغرفة وبعد أن وضعت أمينة الطفلة النائمة على السرير .. جلست على كرسى لتسترد أنفاسها ولكنها شعرت بالاضطراب الشديد .. فقد أدركت أنها وحيدة مع رجل غريب .. فى غرفة بأربعة جدران ..
     وكانت الغرفة متسعة وتشرف على الحقول المحيطة بالفندق .. وكان الشارع المترب الموصل إلى الفندق مظلما .. وأمام الباب تنتصب شجرة جميز ضخمة .. كأنها مارد جبار ..
     وكانت ترعة الابراهيمية على قيد أمتار .. وبدت مياهها الساكنة من نافذة الغرفة .. وكان القمر قد أخذ يطلع ..
     وسمع مصطفى نباح كلب .. ثم انقطع صوته .. وبدت الوحشة والسكون ثقيلان على النفس ..
     وجلس قريبا من النافذة وأخذ يدخن ..
     ورأى السيدة أمينة .. لا تزال بملابس السفر .. وعلى وجهها وشعرها آثار الغبار .. فلم يقل لها شيئا ..
*** 
     ولاحظ وهى جالسة أن الجانب الأيمن من ثوبها مما فوق الفخذ مرتق .. وكان جانب وجهها إليه .. والجانب الآخر إلى السرير الذى نامت عليه الطفلة ..
     وكانت تبتسم على القهوة وتحادثة برقة وعذوبة .. ولكنها الآن صامتة .. وتبدو جامدة كالتمثال ..
     كانت فى أعماقها تصرخ ..
     كانت ترى الجدران الأربعة وباب الحجرة .. الذى سيغلق بعد لحظات بالمفتاح .. والفندق الساكن الخالى تماما من النزلاء ..
     كانت ترى كل هذا وترى نفسها مع الرجل الغريب .. الذى قدم لها كل شىء ويريد بكل بساطة .. ودون أن يفتح فمه .. أن يأخذ الثمن ..
     وقد ساعدته الظروف على أن يحقق رغبته .. دون مشقة ..
     كانت تود قبل أن تدخل الفندق أن تصرخ على الباب وتقول للناس أنها ليست زوجته كما يتصورون .. ولكن لسانها شل عن الحركة .. أذلها الفقر وألجم لسانها وأذلها الموقف .. وسيطر عليها الرجل الذى دفع لها ثمن التذكرة .. وثمن الطعام وثمن الفراش ..
     وسمعته يقول فى هدوء :
     ـ حسيبك شوية .. لغاية .. ما تقلعى هدومك .. وتنامى ..
     وعندما رجع .. لم يجدها متغطية فى الفراش كما قدر .. بل وجدها واقفة فى زاوية من الغرفة ..
     وقد حلت شعرها .. وخلعت خفها .. وكان وجهها شاحبا ولكنه ساكن ولا يبدو عليه القلق ..
     كانت قد عاشت فى دوامة رهيبة عدة دقائق .. أن أحدا لم يلمسها منذ وفاة زوجها .. لم يقرب منها رجل .. كانت تتحاشى الرجال وتبتعد عنهم .. بكل ماتملك من قوة .. وتعرف أنها فقيرة وأنها لو زلت مرة .. ستغوص فى الهاوية ..
     ولكن الأقدار .. وضعت هذا الرجل الغريب .. معها فى غرفة واحدة .. وفراش واحد ..
     رآها ساهمة .. فسألها :
     ـ لماذا لم تنامى .. نامى بجانب ثريا .. الكل يتصورون أنك أمها .. وبغير هذا كنا لا نستطيع أن ندخل الفندق ..
     ـ أعرف هذا ..
     ـ تفضلى استريحى .. وسأطفىء المصباح ..
     وشمل الظلام الغرفة .. ومرت دقيقة .. ثم تحركت إلى شباك السرير وجعلته حاجزا .. وخلعت فستانها بسرعة .. واندست فى الفراش بجانب الطفلة وسحبت على جسمها الغطاء .. وأغلقت عينيها .. ووجدت نفسها تفكر فيه .. أين سينام .. بجوارها .. وارتعشت .. وفتحت عينيها .. وبحثت عنه فوجدته هناك .. وقد أخذ يخلع سترته .. ثم تحرك إلى الباب كأنه يستوثق من إغلاقه .. ورجع بعدها يمشى حافى القدمين إلى السرير ..
     وكانت أمينة قد هيأت نفسها بعد تفكير مروع لما سيحدث .. وقررت أن تستسلم لحكم الأقدار ..
     ولكنه لم يقترب منها .. بل دار نصف دورة فى الغرفة ثم تمدد على الكنبة .. وخيم السكون ..
     واستيقظ النائمون .. على صراخ مفزع .. فى الشارع .. كأن النار قد شبت فيه أو كأن رجلا يضرب زوجته ..
     ولما نهض مصطفى .. وجد طفلته تبكى على صدر أمينه .. فاقترب ليسكتها ويشعرها بأنه موجود عن قرب منها .. ونظرت الطفلة إلى أبيها .. وإلى المرأة الغريبة التى تحملها .. ثم اختارت صدر المرأة .. كانت تطوقها بذراعيها العاريتين فى حنان أكيد .. وتنظر إليها بعطف ..
     وكانت الضجة قد هدأت فى الشارع وبعدت عن الفندق ثم سكنت .. وظل مصطفى واقفا على رأس الفراش ينظر إلى الطفلة .. وإلى المرأة النصف عارية .. كانت فى قميصها محلولة الشعر .. تلاقى نظراته الحادة فى صمت وتوسل .. ترجوه أن يرحم ضعفها ..
     ولكن الوحش النائم فى أعماقه كان قد استيقظ .. وانطلق .. وظل فى مكانه يرقب .. حتى نامت الطفلة ووضعتها أمينة على الفراش .. فاقترب من المرأة وأمسك بيديها .. ونظرت إليه لحظات .. ثم نكست رأسها .. وكان قد اقترب منها بصدره .. فتكورت .. وتجمعت كالقوقعة .. فأخذ يقبل كتفيها ..
     وفى تلك اللحظة سمع صوت ابنته :
     ـ بابا .. عاوزه أشرب ..
     فانتفض وترك المرأة .. ونظر إلى ابنته ..
     وغادرت المرأة الفراش وهى تقول :
     ـ حاسقيها ..
     وكان سادرا .. لم يسمعها .. كان ينظر بقوة إلى ابنته .. ويراها بعين الخيال قد كبرت وأصبحت امرأة .. أنثى كالنساء .. وستكون بعد موته وحيدة فى ذلك الخضم الزاخر لا أحد يعطف عليها .. ولا أحد يرحمها .. وستتعرض كهذه المرأة التى معه فى الغرفة .. للذئاب .. وهو الذى عاش حتى الآن .. ولم يتزوج لأجلها .. فكيف يدنسها .. كيف يدنس فراشها الصغير .. انه يعيش منذ ماتت أمها ليربيها .. يعيش لأجلها فكيف ينسى هذا كله .. فى لحظة مظلمة ..
     واستفاق .. واقترب من الطفلة .. فشدت بذراعيها الصغيرتين عنقه إليها وقبلته ..
     وجاءت أمينة بالماء .. وشربت ثريا .. وهى مسرورة ونامت ..
     ونظر الرجل إلى المرأة الواقفة بجواره بالقميص دون خجل .. لقد تركت أمرها للمقادير .. ولكن نظرته إليها تغيرت .. وعاد ينظر إليها كما رآها فى القطار دون غرض أو غاية .. عاد ينظر إليها كإنسانة فى المجتمع البشرى الذى يعيش فيه .. إنسانة اعترضتها مشكلة فأعانها .. بكل جوارحه دون غرض .. وشعر بالسعادة الحقة تهزه ..
     ورآها تذهب إلى الفراش .. وتتمدد عليه دون أن تسحب الغطاء .. وقد تركت له مكانا بجانبها .. وتقدم نحوها .. ولكنه فاجأها بشىء لم تكن تتوقعه على الإطلاق ..
     سحب عليها الغطاء .. وهو يربت على كتفها .. وتناولت يده لتقبلها فسحبها سريعا .. وعاد إلى مكانه على الكنبة ..
*** 
     وسمعها تبكى بحرقة .. لم تكن تصدق .. أنه يوجد فى الرجال مثل هذا الإنسان ..








ــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــ


  
 




تحت الأمطار


التقيت وأنا راكب القطار من محطة لوو بشاب صينى مهذب يدعى يونج .. انحنى لى عدة مرات وهو يقدم لى بطاقة .. ويدعونى لزيارة المتجر الذى يعمل فيه فى شارع كوين رود .. بحى المتاجر الشهير فى هونج كونج وقدم لى كتابا مصورا به أكثر من 150 صفحة عن محتويات المتجر ، واعتذر لأنه لا يستطيع أن يعبر لى عن كل مشاعره باللغة الإنجليزية لأنه لا يجيدها ..
والواقع أن طريقة الشاب فى الكلام .. وتقديم نفسه .. وفى عرض ما فى المتجر من بضائع .. أغرتنى حتى فكرت فى زيارة المحل فى اليوم التالى مع أننى كنت أقدر أن أبقى أسبوعا كاملا فى « جزيرة كولون » قبل أن أعبر الخليج إلى هونج كونج .
وكان معنا فى العربة رجل نمسوى بدين بصحبته زوجته الإنجليزية ، جلس صامتا الجزء الأكبر من المسافة التى قطعها القطار .. حتى تصورته صموتا بطبعه .. وكانت زوجته منشغلة عنا بصحيفة « جنوب الصين »
وأخذ يونج يسألنى عن دلهى الجديدة .. وأخيرا .. تنبه الرجل البدين وفتح عينيه .. وأخذ يتحدث عن مسجد تاج محل وكأنه رآه منذ ساعة .
وابتدأ من هذه اللحظة يفتح فمه .. ويفيض فى فنون الأحاديث .. ولاحظت أنه مرح .. ويبدو كمن شرب دنا من الخمر .
وكان أسوأ ما فيه .. أنك فى اللحظة التى لا تشاغله فيها بالحديث ينعس فى الحال .. دون أقل جهد يبذله على أعصاب عينيه ليصل إلى هذه الغفوة .. ولما حدثته برغبتى فى أن أنزل فى كولون .. لأكون قريبا من المطار .. ومن الميناء .. ذكر لى ثلاثة فنادق جميلة لا تشتط فى الأجر .. وحذرنى من النشالين .. ومن الأدلاء الذين يقفون على ناصية الشوارع . وقضيت ساعة طيبة فى القطار ..
وفى محطة « كولون » اافترقنا وذهب كل إلى سبيله ونزلت فى أحد الفنادق التى دلنى عليها الرجل البدين .. وكانت الغرفة جميلة .. وتطل على البحر .
*     *     *
وفى اليوم التالى ركبت الباخرة وعبرت الخليج إلى هونج كونج فى جو ممتع .. وكان فى الباخرة خليط من كل سكان الأرض سرنى أن أراه يجتمع فى ألفة فى نطاق واحد .
ولما رست الباخرة خرجت منها أسرع مع جموع الراكبين . ومشيت على قدمى فى المدينة .. ثم ركبت عربة الركشا إلى المتجر الذى يعمل فيه الشاب الصينى الذى التقيت به فى القطار .
ووجدت يونج بين صف من العمال فى الدور الثانى .. فرحب بى فى بشاشة وطاف بى كل أقسام المتجر .. واشتريت بعض أشياء بسيطة .. ولما سألنى عما شاهدته فى هونج كونج قلت له إننى لم أشاهد شيئا يستحق الذكر حتى الساعة .. فوعدنى بأنه سيصحبنى بعد الظهر لأنه وقت راحته فى جولة طويلة .
*     *     *
والتقينا عند الميناء .. ومن هناك ركبنا سيارة أجرة .. انطلقت بنا إلى الهضبة .. ثم نزلنا على مهل نشاهد روائع المدينة حتى بلغنا شاطئ استانلى ورأينا حى الأغنياء بفيلاته البالغة حد الإبداع الفنى .. ثم حى الفقراء على لسان الخليج . بأكواخه الخشبية الصغيرة .
فلما فرغنا من جولتنا فى لسان الخليج وزرنا كثيرا من الأمكنة .. كانت الشمس قد آذنت بالمغيب .. فاقترح يونج أن نتعشى عشوة سمك شهية فى ابردين .. حى الصيادين المشهور .. وأن يكون العشاء فى ذهبية وسط الماء .. وانطلقنا إلى هناك .. وعلى الساحل تجمع حولنا جمع من نساء الصيادين .. اللواتى يقدن الزوارق إلى الذهبية .. فاخترنا زورقا منها وانطلقت بنا صاحبته فى عرض الماء .. وكان يعاونها طفلان أكبرهما فى السابعة من عمره .. وكانت المرأة شابة .. وباسمة .. وان كان أثر الجوع باديا على وجهها .. ولما رست بنا بجانب الذهبية .. أعطاها يونج دولار هونج كونجى .. فتناولته منه بيد ومدت يدها الأخرى ..
وانطلقت بالكلام .. فسألته :
ــ ما الذى تطلبه ؟
ــ بقشيش .. إنهم فقراء .. تصور مائة ألف صينى .. يعيشون فى الماء .. وعلى رزق الماء فى هذه االبقعة .
فأعطيتها دولارا آخر ..
ولما بلغنا سطح الذهبية .. وجدنا جميع الموائد محجوزة .. واعتذر مدير المطعم بأدب .. فقلت ليونج :
ــ نعود ونأتى فى وقت آخر .. يكون مناسبا لك ..
ــ لنشاهد الذهبية إذن .. فإنها تحفة صينية ..
ودرنا فى قمراتها ..
وفى أثناء دوراتنا .. سمعت من يقول :
ــ هالو ..
فاستدرت .. فألقيته الرجل النمسوى البدين .. الذى قابلته فى القطار .. وكان جالسا إلى مائدة مع ثلاثة آخرين .. بينهم زوجته ..
ودعانا للجلوس .. وهو يقول :
ــ اجلسا .. فلن تعثرا على مائدة .. فى هذه الليلة ..
وجلسنا فى الحال وشربنا مع كارل البيرة وتعشينا وانصرف الضيفان .. وبقيت أنا ويونج مع كارل وزوجته .. وأخذنا نتحدث حتى انقضى جزء كبير من الليل .
ولما جاء وقت الحساب رفض كارل أن ندفع شيئا ..  فاضطررت أن أدعوه هو وزوجته إلى العشاء .. فى نفس المكان فى الأسبوع التالى ..
وركب كل اثنين منا زورقا صغيرا إلى الساحل .. وكان كارل مهذبا فأركب زوجته معى وركب هو مع يونج .
ولما خرجنا على الساحل أعطيت الملاحة الصينية دولارين . وتجمع حولى أكثر من عشرين فتاة يطلبن البقشيش .
وكانت زوجة كارل تبتسم وأنا أحاول أن أشق طريقى وسطهن بصعوبة .
*     *     *
وقبل غروب الأحد التالى .. جاء يونج فى الميعاد إلى الذهبية .. وكانت معه أخته .. وكانت شابة حلوة .. وقال لى يونج أنه أحضرها دون دعوة .. لأنها تجيد الإنجليزية .. وستقوم بوظيفة المترجمة .. والدليل معا .. لأنها تشتغل فى أحد مكاتب السياحة .. ورحبت بها جدا وأخذت بجمالها ورقتها .
وجلسنا وسط الزحام ننتظر كارل وزوجته .. وطال انتظارنا حتى يئسنا من حضورهما .. وأخيرا ظهرت ماريون وحدها .. وحدثتنا عن سبب تأخيرها .. فقد مرض زوجها .. وكان رغم مرضه يود أن يصحبها .. ولكنه لم يستطع فى آخر لحظة .. فاضطرت أن تجئ وحدها وهى تشعر بالأسف لتأخيرها ورحبنا بها . ونحن نأسف على مرض كارل .. وأخذنا نشرب ونأكل أكثر من عشرين صنفا من الطعام الصينى اللذيذ .
وحوالى الساعة التاسعة مساء أبدت ماريون رغبتها فى العودة .. لتكون بجانب زوجها المريض .. وكان لابد من مرافقتها إلى بيتها .. وركب معنا يونج وأخته إلى رأس الخليج ثم اعتذرا لأنهما على موعد بعد نصف ساعة .. وتركانا وحدنا .. وقادتنى ماريون إلى الشاطئ .. وهناك كان علينا أن نركب زورقا .. ونعبر الخليج إلى الساحل المواجه حيث يوجد منزل كارل .
ولم أستطع أن أتبين ملامح الفتاة التى كانت تحرك بنا الزورق إلا بعد أن توسطنا الماء .. كانت جميلة وأصغر سنا من ماريون .. وكان معها طفلان .. أحدهما تكور فى بطن القارب .. والآخر كان يحرك المجداف ليساعدها .
وكانت السماء تمطر .. مطرا خفيفا .. والدنيا حالكة ..والأنوار تبدو شاحبة من بعيد فى ظلام الليل المعتم .
وكانت ماريون بجوارى .. تحادثنى بصوت خافت .. وتسألنى عن رحلتى الطويلة .. وكان نظرنا يستقر فى وقت واحد على وجه المرأة التى تحرك بنا الزورق وتقودنا فى ظلام الليل .. وسط المطر والريح التى أخذت تهب .
ولم يكن الجو باردا .. ولكن المطر جعلنا نحس كأن السماء تساقط علينا الثلج .. وشعرت بماريون وهى تلتصق بى تحت الزورق المكشوف .. وسألتنى عن مئات الأشياء وأجبتها عليها بحرارة عواطفى .. وقالت لى إن زوجها يعمل فى هونج كونج منذ اثنتين وعشرين سنة .. وأنه ربح كثيرا من تجارته .. ولكن صحته ساءت فى السنين الأخيرة .. فتوقف عن العمل كلية .. ولولا الثروة المدخرة لتعب من أعباء الحياة .
وكنا قد اقتربنا من الساحل .. وأوقفت المرأة الصينية الزورق .. وخرجنا والسماء لا تزال تمطر .
وفى داخل البيت .. وجدت كارل صاحيا .. واستقبلنى ببشاشته .. ومرحه وشربنا الشاى .. وغيرت ماريون ثوبها .. وبدت فى أجمل زينة .
وقالت لزوجها بعد أن قدمت لى فطيرة من صنع يدها :
ــ كارل .. إن السيد إبراهيم .. يدعونا لزيارة القاهرة .. لنرى الأهرامات والآثار التى تحفها .
ــ ما أسعدنى .! لو استطعت أن أنفذ هذه الرحلة فى الشتاء المقبل ..
ــ وسنركب البحر ..
والتفتت إلىّ وهى تضيف :
ــ ان كارل .. لا يحب ركوب الطائرات ..
وقال الزوج المريض معقبا على كلامها :
ــ طبعا سنركب البحر .. مالى وهذه الصواريخ المنطلقة فى الفضاء ..
وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث .. وقبل منتصف الليل بقليل .. استأذنت لأنصرف .. ومشت معى ماريون إلى الخارج .. وعلى الساحل تقدم لى رجل بأسنان ذهبية ووجه أصفر .. لأركب زورقه .. ولكننى أبعدته عنى.. وبحثت عن المرأة الصينية التى جاءت بى حتى وجدتها .. وانطلقت بى فى جو ممتع .. وكانت السماء قد أقلعت .. وبدت المدينة على العدوة الأخرى كحبات اللؤلؤ المتناثرة على صدر حسناء ..
وكان ابن الملاحة الصغيرة لا يزال صاحيا .. ولكنه لم يعمل .. كان مكورا بجانب أخيه .
وكانت تعرف قليلا من الإنجليزية .. فتبادلت معى بضع كلمات .. ثم وضعت فى يدها دولارين وأنا خارج إلى الشاطئ ..
فشكرتنى بحرارة ..
*     *     *
وفى الصباح قابلت أخت يونج فى الباخرة الذهبية إلى هونج كونج .. ابتدرتها بقولى :
ــ كبف حالك .. وحال يونج ؟
ــ كيف حالك أنت .. وحال الإنجليزية .. لقد تأخرت لأول مرة فى حياتى .. وأنا ذاهبة إلى عملى .. وما دام التأخير سيجعلنى أراك سأتأخر كل يوم .
ــ ما أجمله من كلام .. يخرج من فم حسناء ..
وضحكت .. ودعوتها إلى السينما .. فى حفلة الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر فجاءت وبعد السينما عبرنا الخليج ورافقتها ماشيا إلى بيتها .. ومررنا ونحن فى الطريق على الفندق الذى أنزل فيه فقلت لها :
ــ إنى نازل فى هذا الفندق ..
ــ إنه جميل .. ويطل على البحر .
ــ أندخل لنشرب الشاى ؟
ــ أوه .. عظيم ..
ودخلنا وجلسنا نشرب الشاى فى البهو . ولاحظت سعادتها وسرورها وكنت أستطيع بكل بساطة أن أصعد بها إلى غرفتى .. ولكن صورة يونج أخيها الذى عرفته ووضعت يده فى يدى كانت فى ذهنى .. فضغطت على أعصابى .. وجلست معها أقاوم كل رغبات نفسى .
ثم نهضنا ووصلتها إلى بيتها .. ولاحظت اكتئابى .. ولم تدرك سببه .
*     *     *
وفى اليوم التالى بعد الظهر ذهبت أزور كارل .. وركبت زورق المرأة الصينية .. وكانت على رأسها القبعة العريضة .. ولكنها بدت فى ضوء الشمس أكثر جمالا مما رأيتها من قبل .
وكان ابنها لا يعمل معها ..
وسألتها عنه فأشارت إلى شىء مكوم هناك فى المقدمة .. كأنه قطع متجمعة من الملابس الرثة ..
ــ إنه مريض ..
ــ منذ متى ؟
ــ منذ الأمس .. إنه محموم .. أعطنى بضعة دولارات .. لآتى له بالدواء .. وسأنقلك مجانا إلى بيت الرجل النمساوى طول الشهر ..
ــ ليس معى دولارات .. لقد أفلست ..
ــ أوه .. لم أكن أتصور أنك ردىء إلى هذه الدرجة ..
وزمت شفتيها .. وبعد قليل عادت تنظر إلىّ بعينيها كأنها تستجدى ..
والواقع اننى كنت على وشك الإفلاس حقا ولم أكن قد دفعت أجر الفندق منذ أسبوع .. وكنت أتوقع نقودا من القاهرة .. فى أية لحظة .. وكنت أعرف أنها ستصل حتما ولذلك لم أشغل بالى .. ولم أفكر فى أن أقترض أى مبلغ من يونج .. أو كارل .. مادمت آكل وأنام فى الفندق ومعى دولارات كافية لمصاريفى وتنقلاتى .. التى أصبحت محصورة فى عبور الخليج .. والذهاب إلى بيت كارل .
ودخلت البيت وجلست مع ماريون أشرب النبيذ .. وأتحدث .. وكان زوجها راقدا فى الغرفة المجاورة .. فى حالة من الإعياء .. وكانت هى فى أبدع زينة وفى ثوب يكشف عن مفاتن جسمها .. ولم أكن أدرى هل من عادتها أن تلبس مثل هذا الثوب وهى فى بيتها .. أو اختارته من أجلى ..
وقالت وهى تشير إلى شىء هناك ..
ــ هل رأيت الناحية الأخرى من الخليج ؟
ــ أبدا ..
ــ تعال .. لترى أجمل منظر ..
ومشيت وراءها ولاحظت أنها صرفت الخادم الصينى . وأنه ليس فى البيت الآن سوانا .. وسوى زوجها الراقد .. على فراش المرض .. ودرنا حول حديقة المنزل الصغيرة ثم هبطنا على العشب .. حتى اقتربنا من الساحل.. وبدا المنظر .. يأخذ بلب المشاهد وحسه .. واستراحت ماريون على العشب .. فجلست بجوارها .. كأننى فى حلم .. وكان صوتها خافتا حالما .. ونسينا أنفسنا فى هذا المكان .. ثم قالت بتثاقل وهى ترخى أهدابها :
ــ امسك يدى . إننى أشعر بالنعاس .
فنهضت وتناولت يديها ..
فوقفت .. واقتربت منها والتصقت بصدرى .. وأخذت ذراعاى تدوران حولها .. ولكن فى هذه اللحظة سمعت صوتا .. سمعت من يصيح فى
الداخل .. فتذكرت الرجل الطيب الراقد فى الفراش ..
فتراخت ذراعاى فى الحال .. وتركت جسمها .. دون أن ألمس حتى شفتيها .. ومشت صامتة متخاذلة إلى بيتها ... وانحدرت إلى الزورق وأنا أتعس مخلوق ..
*     *     *
وقلت للمرأة الصينية الملاحة وأنا أنظر إليها فى الظلام :
ــ هل يمكنك أن تدورى بى دورة حول الخليج ؟
ــ لماذا .؟ الدنيا برد ..
ــ مجرد متعة بالمنظر ..
ــ كما تحب ..
وأصبحنا فى وسط الماء ..
وقلت لها :
ــ اتركى الدفة .. وتعالى هنا بجوارى ..
ــ إن الدفة .. هى المجداف ..
وضحكت ..
ــ أعرف هذا .. تعالى
وجلست بجوارى فمسحت على ذراعها ..
ــ هل تعطينى ثلاثين دولارا ..لأشترى بها الدواء للو .. إن أخاه مات بالكوليرا ..
ــ وأين أبوه ؟
ــ مات بالكوليرا ..
ــ وأنت .. ألا تخافين من الموت ؟
وهزت كتفيها .. كأنها لا تبالى بشىء يقع فى الحياة ..
ولمحت زورقا يقترب منا .. فطوقتها وغطيت شعرها بيدى .. حتى يبعد الزورق ..
وسألت بصوت خافت :
ــ لماذا فعلت هذه الحركة ؟
ــ لا أدرى .. ربما كنت أحميك من أى شخص يقترب ..
ــ ولماذا تفعل ذلك ؟
ــ لا أدرى ..
وضحكت ..
وسألتها .. وقد رأيت الغلام يتحرك هناك ..
ــ ربما يكون ابنك صاحيا ..
ــ إنه يموت .. من البرد والجوع .. ولا يحس بشىء .. هل أغطيه لتطمئن؟
ــ أجل .. أرجوك ..
وكنت أرتعش من البرد والعذاب .. وأنا أضمها إلى صدرى ..
وأخذ المطر يتساقط بغزارة . وكانت نجوم الليل تتساقط حوالينا عندما اقتربنا من الساحل . ودخلنا فى صف الزوارق الأخرى .. وكورت ورقة بمائة دولار وضعتها فى يد المرأة .
فنظرت إلىّ مدهوشة ..
ووضعت قدمى على السقالة لأصعد إلى الشاطىء .. ولكن بعد أول خطوة شعرت بالسقالة تهتز .. فلم أتماسك وسقطت فى الماء ..
ورأيت أسنان الرجل الصينى الذهبية تحت السقالة ونصل سكين حادة .. وسمعت ضحكة مجنونة مزقت سكون الليل .





ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 787 فى 9/8/1958 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



الحان راقصة


     عشقت الموسيقى وأنا طالب فى المدارس الثانوية إلى درجة الجنون .. وكانت تأخذ منى كل فراغى .. وكل وقتى .. وبعد عامين من دراسة " النوتة " أخذت أتلقى دروسا خاصة فى الكمان على يد سيدة نمساوية .. كانت تسكن فى شقة صغيرة علوية .. بشارع حسن الأكبر .. وكانت أرملة فى الخامسة والأربعين .. فقيرة وفنانة من طراز لايشق له غبار ..
     وكانت تعطى دروسا فى البيانو والكمان للسيدات والطلبة الذين يعشقون الموسيقى نظير أجر بسيط لايتجاوز جنيها فى الشهر .. ومع هذا فقل من يسير معها إلى نهاية الشوط .. فنصف العشاق كان يتخلف فى أول الطريق بعد أن يدركه التعب واليأس .. ونصفهم الباقى كان يتكاسل ويترنح .. ويجىء يوما ويغيب عشرة ..
     ولكن هذا لم يكن يغير شيئا من طريقة حياتها ..
     وكنت ألاحظ أنها تعيش ككل أنثى فى مثل سنها وادعة مستكينة ولكنها كانت تكثر من شرب النبيذ .. وكنت أرى الزجاجات الفارغة فى المطبخ تصل إلى السقف ..
     وكانت تراعى مصلحة تلاميذها .. وتعلم .. وفقا لبرنامج مرسوم .. وكان معظم طلابها من هواة الكمان وندر من كان يتعلم البيانو ..
     وكان من عادتها أن تستقبلنى بفنجان من القهوة .. تجىء به من المطبخ وتجلس أمامى وتشرب ..
     وكانت رقيقة جياشة العواطف تفيض مشاعرها .. على الجميع .. ولم أكن أعرف أتزوجت من قبل .. ورزقت بأطفال أم عاشت طول حياتها عانسا كما أراها الآن ..
     وكان معظم تلاميذ السيدة هيلين من دون العشرين .. وكانت الدراسة تستمر فى بيتها إلى الساعة التاسعة ليلا ..
     وكان يقوم على خدمتها شاب يدعى سيد وكان سريع الحركة يعفيها من طلوع السلالم العالية ويقضى لها كل ما تحتاجه من السوق .. وكان يأتى فى المساء فقط لأنه يعمل إلى الغروب فى محل تجارى فى شارع جامع البنات ..
     وكان مرحا لاتفارق الابتسامة وجهه .. ولايشكو من أى شىء .. على الاطلاق ..
     وكانت السيدة هيلين تقول لى أنه لاعيب فيه سوى أنه يشرب النبيذ .. ويحسبه " تمر هندى " .. وكنت أضحك لهذا .. ويضحك سيد ..
     وكانت الحياة بالنسبة لها بسيطة ولكنها كانت تعتمد على شىء غير ثابت يتغير تبعا لمقتضيات الأحوال .. ولهذا كنت أراها أحيانا واجمة .. ووجهها أخرس ..
     كانت ترى الشيخوخة والعجز وقلة الحيلة .. تقترب منها وشيكا .. ولا تستطيع هى عمل أى شىء على الاطلاق .. فتضع يديها على عينيها كأنها تتقى بهما الصاعقة ..
     وكان درسى يبدأ من الساعة الثامنة ثلاث مرات فى الأسبوع .. وكانت تعطينى أكثر من الوقت الذى أستحقه .. لأنها وجدتنى أتقدم .. وكانت تعلق علىَّ الآمال ..
     وكانت فنانة أصيلة .. ولقد امتزجت حياتها بجو القاهرة وأحبتها وأحبت أهلها .. وأحبت التلاميذ الذين تعطيهم الدروس كأنهم قطعة من قلبها ..
     وكانت صديقة .. تسألنا عن أحوالنا ومدارسنا ومعيشتنا وكان يكربها أننى أعيش فى القاهرة .. وحدى .. وأسرتى بعيدة فى الريف .. وكانت تسألنى كيف آكل .. ومن الذى ينظف لى ملابسى وبيتى .. والواقع أن هذه كانت مشكلة ضخمة ولكننا لم نكن نفكر فيها .. لأننا كنا نعيش كما اتفق ..
     وكان الذين لايحبون الفنون مثلنا .. يحسون بالفراغ والانقباض .. فينطلقون إلى المواخير ..
     وكان درسى فى الواقع هو آخر الدروس .. ولقد اخترته فى الساعة الثامنة لأنى كنت أسكن قريبا منها .. وأحب أن أذهب إليها بعد الفراغ من دروسى المدرسية ..
     وكانت تستعمل طريقة محببة إلى كل نفس .. ولكننى كنت أعانى من تلف الأعصاب أحيانا وأكتفى بأن أسمع منها مقطوعة كلاسيكية .. أو افتتاحية قصيرة .. وأنا جالس شارد مضيع ..
     وكانت السيدة هيلين بيضاء الوجه وطويلة .. وتركت الشيب يزحف إلى شعرها ولم تغطه بالأصباغ ..
     وكانت بعد الدرس تجلس أمامى تتعشى وتتحدث وتفيض فى كل الشئون وكانت هذه الجلسات قد زادت صلتى بها ..
     ورغم فقرها ورقة حالها فإنها ما كانت تشكو قط ويبدو أن الشراب كان من مقومات حياتها ووجودها لأنه كان على مائدتها بانتظام ..
*** 
     وكان تلاميذها ينقصون ويتزايدون تبعا للظروف والأحوال .. وفى بعض الشهور كنت أبقى عندها ومعى إثنان أو ثلاثة فقط .. وعندما يقترب امتحان المدارس فى يونية كان ينقطع كل الطلاب عن دروسها الموسيقية .. ويبقى اثنان أو ثلاثة من الذين يؤهلون أنفسهم لدراسة الفن والارتزاق منه ..
     وفى هذه اللحظات الحرجة كانت تعانى ضيقا ماليا شديدا .. ويبدو ذلك من صوتها .. وحركتها فى البيت .. ولم أكن أنا الطالب الفقير ولا أى واحد ممن تعرفهم يستطيع أن يفعل لها شيئا ..
     وكانت فى هذه الساعات المظلمة تكثر من التدخين ومن شرب القهوة .. وتبدو فى الصباح .. محمرة العينين كأنها ما وضعت رأسها على وسادة ..
***  
     وفى مساء يوم من أيام الثلاثاء .. ذهبت إليها كعادتى لأخذ الدرس فأدخلتنى غرفتها .. وقالت لى أنها أجرت الغرفة الأخرى لأحد أقربائها  ليساعدها على الحياة .. وفى هذه اللحظة عرفت فقط أن لها أقرباء فى القاهرة ..
     وكان الرجل متوسط العمر ويبدو موفور الصحة .. وكان قليل الكلام .. وقد اكتفى بمصافحتى دون كلمة واحدة وخرج لعمله ..
     وسررت لأن المدام حلت مشكلة العجز الذى طرأ على ميزانيتها من انقطاع الدروس فى موسم الامتحانات بطريقة مرضية ..
     وعادت لها ابتسامتها .. وأخذت تغنى وتشرب النبيذ وتأكل السجق .. وكان سيد يذهب إلى شارع شريف ويقطع هذا المشوار الطويل ليجىء لها بسجق وارد من فينا ..! يذكرها بوطنها .. وأهلها ..
     وكانت تأكل وتمرح .. ولفرط حيويتها فى تلك الساعات الحالمة كنت أتخيل أن السواد قد عاد إلى شعرها .. وكنت إذا أخطأت فى العزف تضع أصابعى بيدها على الكمنجة فى المكان الصحيح ..
     وكان حنانها يفيض عن عواطف دافقة .. ويتفجر كالينبوع ..
                                     ***       
     وفى ليلة من ليالى الصيف وكنا فى العطلة الدراسية والناس قد فروا من حر القاهرة إلى المصايف صعدت كعادتى إلى شقة المدام .. فسمعت وأنا صاعد صوتها وهى تصرخ .. ولم أكن قد ألفت منها هذا الصراخ .. فدخلت وجلست فى الردهة وأنا أحدث نفسى بالخروج ولكن المدام عندما رأتنى انفثأ غضبها وقالت لى :
     ـ استمهلنى لحظة يا مصطفى .. سنبدأ الدرس حالا ..
     فوضعت صندوق الكمنجة على ركبتى وجلست صامتا .. ورأيت فى هذه اللحظة قريبها الساكن عندها يكثر من الخروج والدخول فى غرفته باضطراب ظاهر .. ثم رأيته يجمع ملابسه وكانت هى واقفة على بابه تحادثه بالألمانية ومن لهجتها يبدو أنها تسبه ..
     ورأيته بعد لحظات يخرج وفى يده حقيبة وأغلقت وراءه الباب ..
     وجلست معتمدة برأسها على راحتها .. وهمست تتمتم :
     ـ أى خنزير !!
     ثم أدركت أنها مشوشة الشعر وفى ملابس بيتية غير لائقة .. فى حضرة شاب غريب .. فذهبت تصلح من شأنها ..
     وعادت وهى تحاول الابتسام .. ولكن عينيها كانتا تبكيان ..
     وسألتها :
     ـ لماذا ذهب ..؟
     ـ تصور هذا الحيوان .. يجىء بالنساء الساقطات .. من الشارع .. ولايحترم أنوثتى .. ولايقدر أن معه سيدة فى البيت ..
     ـ ومتى حدث هذا ..؟
     ـ أمس .. فى آخر الليل .. وكنت نائمة .. ولكننى صحوت ..
     وعادت تبكى ..
     ـ لماذا يجرح هؤلاء الأوغاد احساسنا ..؟
     ـ على أى حال المسألة انتهت بطرده ..
     ودفنت رأسها ..
     ـ أعذرنى إن تأخر الدرس .. سأصنع لنفسى فنجانا من القهوة أولا .. أحس برأسى كالطاحونة ..
     ـ أعفيك من درس اليوم لأنك متعبة ..
     ـ لا .. لا .. وما ذنبك ..؟
     وجاءت بالقهوة ..
     ـ ألا تشرب فنجانا ..؟
     ـ لم أضعها فى فمى قط ..
     ـ وكيف تسهر .. وتستذكر دروسك ..؟
     ـ أستنشق النشادر ..!
     وضحكت متعجبة ..!
     ـ والنبيذ .. تشربه ..؟
     ـ إن والدى لايسمح لى بشرب " الخروب " ..
     ـ ولكنه بعيد .. بعيد ..
     ـ إنى أراه الآن .. وكأنه معى فى هذه الغرفة ..!
     ـ إنه رجل رهيب إذن ..!
     وأمسكت بيدى لأول مرة منذ دخلت بيتها وقبلتها فى رقة محببة .. ظهرا لبطن .. وهى تضغط عليها قليلا قليلا .. وتنظر فى خلال ذلك إلى شىء ثابت على الأرض ..
     ثم استدركت فعلتها وقالت لتغطى عواطفها .. وهى تثبت نظرها على كفى :
     ـ إذن .. ستعمر طويلا ..
     ـ ليس المهم أن نعمر .. وإنما المهم أن نعيش ..
     ـ أوه .. من الذى علمك هذه الفلسفة .. وأنت صغير ..؟
     ـ إننى أدرس شكسبير .. ودكنز ..!
     ـ هذا رائع ..! .. والآن نبدأ الدرس ..
     ـ لا زلت أصر على أن أعفيك الليلة من أى اجهاد ..
     وتناولت الكمنجة .. ونهضت ..
     ومرة أخرى على الباب .. أمسكت بيدى .. ورأيت عواطفها كلها تطل من عينيها وأحسست بشىء يتفجر فى صدرها ..
     وأبدت حركة كأنها تود أن تدفن رغباتها لحظة فى أحضان رجل .. ولكنى تجاهلت هذه الحركة .. وهبطت السلم وكنت أسمع وقع أقدامى .. كأنها المطارق تعمل فى رأسى ..
     ومر شهر ولم أذهب خلاله إلى الريف رغم العطلة الدراسية .. لأننى كنت لا أود أن أنقطع عن دروس الموسيقى ..
     وفى مساء يوم ذهبت كعادتى لأخذ الدرس ففتح لى سيد الباب .. ولما دخلت وجدت العفش فى غير موضعه والبيانو تحرك إلى الباب الخارجى .. فسألته :
     ـ ماذا جرى ..؟
     ـ سيبيعون العفش ..!
     ـ وأين المدام ..؟
     ـ فى غرفتها تبكى ..!
     وكان صوته يبكى ..
     وعلمت منه أن صاحب البيت أوقع حجزا على العفش نظير سبعة جنيهات إيجار شهرين .. والبيع فى صباح الغد ..
     وشعرت بالألم .. وكان فى جيبى حوالة بجنيهين وصلتنى من البلد .. فقررت أن أصرفها فى الصباح وأن أقدمها للمدام .. ولما قابلتها وجدتها حزينة .. وباكية .. ولا تدرى كيف تتصرف .. فهونت عليها الأمر وأنا أشد منها اضطرابا وحيرة .. ثم انصرفت ..
***  
     وفى الصباح ذهبت إلى بيتها مبكرا .. وصعدت السلالم فوجدت المحضر .. ودخلت على أثره الأرجل الغريبة إلى الشقة .. وشعرت بالانقباض والألم .. ولما أعطيت الجنيهين للمدام .. رفضت .. وأصرت على الرفض وهى تقول :
     ـ وكيف تأكل وتعيش .. وهم لايقبلون تأجيل الإجراءات .. لأنهم يطلبون المبلغ كله أولا ..
     وابتدأ المزاد على البيانو وكان أول شىء فى القاعة .. وشعرت بمن يأخذ بمخنقى وبطنين حاد فى أذنى .. وأصبحت الأصوات التى حولى كهزيم الرعد ..
     وفجأة دخل شاب يرتدى جلبابا بسيطا .. ووضع الجنيهات السبعة على المائدة فى سكون ..
     وتناول المحضر المبلغ من يد سيد وطوى حقيبته بعد أن أثبت فى الأوراق شيئا وخرج .. وخرج بعده كل الغرباء ..
***
     وكان سيد يريد أن يخرج أيضا .. فقد أنجز مهمته .. ولكن المدام نادته والدمع فى عينيها .. وأمسكت بيده .. وفاضت عواطفها وكانت تود أن تقبل وجناته ولكنه انفلت منها وجرى على السلم .. بعد أن أغلق عليها الباب ..
***  
     ولما استدارت رأتنى فتقدمت نحوى .. ورأيت كل عواطفها الحبيسة عبر السنين وكل حنانها .. وكل رغباتها .. بين ذراعيها المفتوحتين ..
     ولما أرادت أن تقبل جبينى .. تلقيت شفتيها بفمى .. وذابت عواطفها فى هذه القبلة ..
***  
     وفى المساء دعتنى أنا وسيد .. وجلسنا نحن الثلاثة حول المائدة نأكل السجق الوارد من فينا ..!
     ثم جلست على البيانو .. فعزفت عليه لأول مرة ألحانا راقصة .. وهى تنظر إلينا معا .. ولم أكن أدرى أينا الذى أدخل على قلبها السرور ..







ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بتاريخ 27/3/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







الزهور



     كان مختار جارى فى الأرض العذراء التى اشتريتها من مصلحة الأملاك .. قريبا من بلدة نكلة .. على خط المناشى .. وأخذنا فى إصلاحها بحماسة وأمل ..
     وكانت الأرض محصورة بين النهر وترعة المنصورية على شكل مثلث غير متساوى الأضلاع ..
     وكان مختار زميلى فى كلية الزراعة وله مثل خبرتى فى أن يكسو سطح الأرض بالسندس ويحول الرمال إلى ذهب .. ولكن صحته كانت تعوقه فى كثير من الأحيان عن تحقيق أمانيه ..
     وكان قد بنى لنفسه منزلا صغيرا من طابق واحد على رأس غيطانه .. وعن قرب من السكة الزراعية .. وكان يفصلنى عنه خط طويل من أشجار الجازورينا ..
     وكنا نزرع الفول السودانى .. فى الأرض الرملية حذاء النهر .. والأشجار والخضار فى الأرض العالية القريبة من الترعة ..
     وكان مختار يقضى معظم شهور السنة فى القاهرة .. ويجىء إلى المزرعة وقت ضم المحصول .. وكان معه سيارة تساعده على هذا الانتقال ..
     أما أنا فكنت أقيم فى مزرعتى على الدوام .. وكنت قد وطنت نفسى على أن أستقر كلية .. حيث أغرس الأشجار ..
     وكانت الحياة تمضى بنا رتيبة وسط الفلاحين ولكنها ليست مملة على كل حال .. وكنت أقضى النهار والليل وسط هؤلاء الناس البسطاء الفقراء .. الذين تنحصر مشاكلهم فى الحصول على السماد .. وفى الخوف من الآفات الزراعية .. ومن الصقيع .. ومن عدم اطلاق المياه فى المواعيد .. ومن رداءة الطرق فى الشتاء بسبب الوحل .. والأمطار ..
     وكان منزلى من طابقين قريبا من الترعة .. وفيه حططت الترحال نهائيا وجهزته بكل وسائل الراحة .. وبقى أن يصل إليه نور الكهرباء .. عندما يشمل العمران المنطقة ..
     وكان كل شىء يسير وفق ما أشتهى وأرغب .. فالأرض كانت تستصلح وفق برنامج مرسوم .. والحياة ليست كئيبة .. وكانت هناك بعض العقبات ولكننى كنت قد وطنت نفسى على النضال ..
     وفى خلال سبع سنوات استطعت أن أحمل العربات بالخضار .. وأن أبيع حقلا كبيرا من الفول ..
     وكنت فى حالات كثيرة أضم محصول مختار إلى محصولى .. ونبيعه لتاجر واحد ..
*** 
     وفى ليلة من ليالى الثلاثاء عدنا متأخرين من القناطر بعد أن بعنا المحصول الجديد .. وذهب كل منا إلى بيته لينام ..
     وبعد نصف الليل أيقظنى سمير خادم مختار .. ليقول لى أن مختار أحس بمرض فجائى ويطلبنى فى الحال ..
     فارتديت بدلتى .. وأسرعت إليه .. فوجدت حرارته مرتفعة وقطرات العرق تسبح على جبينه .. فأسعفناه بما فى أيدينا حتى حضر الطبيب فى الصباح ..
     ووجد عنده هبوطا شديدا فى القلب .. وطلب منه أن يرقد فى الفراش أسبوعين كاملين دون أية حركة وفى الظهر جاءت زوجته .. ولم أكن قد شاهدت سعاد من قبل .. لأنها لم تكن تجىء إلى المزرعة .. وإذا جاءتها لم تمكث فيها غير ساعة ..
     وكنت ألمح جانب وجهها .. أو ذيل ثوبها من بعيد وهى تركب السيارة .. أما هذه المرة فقد جلست أمامى ساعات تتحدث فى كل الشئون ..
     وقد بدت لى مشرقة جميلة وكانت رغم سفورها متحفظة .. وكانت شديدة القلق على زوجها .. فطمأنتها حتى سكن روعها ..
     وبقيت بجانب فراشه إلى العصر .. ولما أغفى .. تركناه وجلسنا فى الشرفة الخارجية .. المطلة على المزارع .. وأخذت سعاد تسألنى عن أحوال الريف .. وقالت لى أنها شاهدتنى من قبل لأنها كانت تسكن معى فى عمارة الحكيم بالجيزة منذ سنوات ..
     وكانت ترانى كثيرا على سلم العمارة أو فى شارع المدارس .. وقد عجبت لاحتفاظ ذهنها بصورتى بعد كل هذه السنين .. ولكنها كانت حادة الذكاء شديدة الملاحظة ..
     وقالت لى وهى تضحك أنه لولا أن مختار أصر على إخراجها من الجامعة ليتزوجها .. لالتقت بى فى مكان آخر ..
     وبدت لى رغم ابتسامتها الظاهرة .. وثوبها العصرى البسيط .. وانطلاقها .. منطوية .. كأنها تجتر أحزانها ..
     وقد رجعت ببصرى إلى حيث يرقد مختار .. فلم أجد فيه ما يسوء المرأة أو يخيب رجاءها فى الحياة ..
     إذا استثنينا تلك الجهامة المطبقة التى تعبر على وجهه كما تعبر سحابة الصيف ..
*** 
     وفى الصباح أرسلت إليها زكية تحمل صينية الإفطار .. لأنى كنت أعرف أن بيت مختار لم يستعد بعد للضيوف ..
     وجاء بعض أهله فى نفس اليوم من القاهرة ليزوروه ثم انصرفوا .. وبقيت زوجته ..
     وأخذنا نعد العدة ليأخذ حظه من الراحة فى هذا المكان المقفر دون ملال ولتشعر زوجته بنفس الشعور .. فحملت إليه راديو ببطارية من بيتى مع ربطة من المجلات والكتب ..
     ورغم هذا فقد رأيت سعاد ظهر يوم الثلاثاء وكنت فى الحقل .. متكئة على سور الشرفة .. ووجهها ينطق بالعذاب ..
     وكنت أعرف ما تعانيه من ألم الوحدة .. فليس عندنا أنثى سوى زكية امرأة الخفير وهى موزعة بين عملها فى بيتى ورعايتها لزوجها .. وتمريضها لمختار ..
     وبدا لى أن أحضر ابنة خالتى هدى لتؤنس سعاد ولكنى رأيت أن الأمر سيزداد سوءا لأن هدى لا تستطيع أن تبقى أكثر من نهار واحد .. وتطير بعده إلى الإسكندرية .. وستشعر سعاد بعدها باللوعة أشد وأبلغ ..
*** 
     ورأيتها ذات صباح وأنا خارج إلى الحقل .. جالسة على مقعد القيادة فى سيارة زوجها .. وكان قد تركها خلف البيت ..
     فسألتها :
     ـ تعرفى تسوقى ..؟
     ـ اتعلمت شوية وأنا فى الزيتون .. ونسيت ..
     ـ السواقة كالسباحة .. لا تنسى قط .. جربى وأخرجى بالسيارة ..
     وأدارت السيارة ..
     ـ هيا إلى القناطر ..
     وسألتنى :
     ـ وحضرتك تعرف تسوق ..؟
     ـ أبدا ..
     ـ يعنى العربية حتفضل نايمة هنا .. لغاية ما يطيب مختار ..
     ـ أخرجى بها الآن ..
     ومرت بنا زكية فأركبتها معها ..
     وخرجت بالسيارة .. ولكنها لم تبعد .. دارت بها دورتين فى الأرض الفضاء المجاورة ثم عادت مسرعة .. ونزلت من السيارة وهى تمسك بذراع زكية وكانت هذه مصفرة الوجه .. تمشى على مهل وهى تتوجع ..
     وأسرعت بها إلى داخل الكوخ .. وبعد ساعة علمت من حركتها وما تطلبه من أشياء .. أن زكية جاءها المخاض .. وظلت سعاد بجانب الفلاحة الفقيرة .. لم تتركها لحظة ..
     وقد نسيت فى خلال هذا النضال .. نفسها .. ونسيت أن زوجها مريض وظلت واقفة على قدميها حتى الصباح ..
     ولما وضعت زكية واطمأنت سعاد على حالتها .. تركتها وعادت إلى بيتها لتستريح ..
*** 
وفى الغروب ذهبت أعود مختار .. فوجدت حالته حسنة ومطمئنة .. ووجهه كان قد عاد إليه الدم الذى شرد منه ..
     وكان قد بدأ يتغذى بالمسلوقات والدواجن .. ويشعر بفعل الفيتامينات فى جسمه .. وكان الطبيب قد منعه من تعاطى المنبهات اطلاقا .. وجعله هذا يبكر فى النوم .. فندر ما كان يسهر إلى ما بعد الساعة التاسعة ليلا ..
     وكنت بعد هذه الساعة أنسحب .. وأتركه .. ليأخذ حظه من الراحة .. وأحيى زوجته وآخذ طريقى إلى الخارج ..
     وفى ليلة مقمرة وكنا فى العاشر من سبتمبر .. أبدت سعاد رغبتها فى أن تمشى قليلا تحت ضوء القمر .. وبحثت عن الخفير .. ليرافقنا فى هذه الجولة فوجدته قد ذهب إلى القناطر ليشترى شيئا لبيته .. فلم أر بدا من الانطلاق مع سعاد وحدى تحت السكة المظللة بأشجار الكافور العالية .. وكان الهواء رخوا .. والماء يتدفق غزيرا أسود بجانبنا فى الترعة .. ولاحت لناظرينا المراكب هناك على صفحة النهر .. تصارع التيار .. ومشينا تحت الأشجار .. صامتين .. وحيدين .. فى الليل .. وكانت هذه أول مرة فى حياتى أمشى فيها وحدى بجوار سيدة فى الريف .. تحت السماء والقمر .. وشعرت برجفة .. ثم شعرت بعطرها .. وعبير جسمها .. فرحت فى غيبوبة من سرى فيه المخدر .. وأخيرا وجدت نفسى أنحدر إلى النهر ..
     وكانت تمشى ساكنة .. وادعة .. وكان وجهها أنضر ما وقعت عليه عيناى فى النساء .. ولكن شيئا كان يطويها عنى ويلفها ويغشيها عن بصرى .. كانت حزينة .. رغم ضحكتها الموسيقية وصوتها المرح ..
     ولم يكن الحزن لمرض زوجها .. فقد رأيت صفحة وجهها أول ما جاءت يحمل هذا الطابع ولم يغيره المرض أو يزد عليه ..
     وقلت لها :
     ـ أننى آسف .. فقد حبست معنا .. فى هذا القطاع الضيق ..
     ـ أنا دائما محبوسة ..!!
     وكان صوتها فيه مرارة .. فلم أعقب .. وقالت وقد رنت أهدابها وتطلعت إلىَّ :
     ـ أتعرف أنك قد هونت علينا كثيرا طوال العشرة أيام التى قضيتها هنا .. ولا أدرى كيف يكون حال مختار بدونك ..!!
     ـ إن مختار هو أعز صديق .. وأنا لم أفعل شيئا ..
     ـ أفكر فى العودة إلى القاهرة غدا ..
     ـ هذا أحسن .. فحالته مطمئنة .. وعودى إليه بعد يومين أو ثلاثة وستجدينه قد شفى تماما ..
     وحدقت فىَّ طويلا ثم سألت ونحن عائدان مفتربان من بيتى :
     ـ لماذا لم تتزوج كما تزوج مختار .. لقد سبقك بسبع سنوات .. لماذا تعيش وحدك ..
     ـ لأنى أبنى مستقبلى أولا ..
     ـ ولماذا لايكون معك من يشاركك فى هذا البناء ..؟
     ـ أخاف أن يعوقنى الشريك عن عملى .. وأنا أرغب فى أن أخلص من إصلاح هذه الأرض أولا ..
     ـ وبعد هذه الأرض ستفكر فى غيرها .. وتستهويك الأرض وتصبح عبدا لها .. فهل تقبل أن تكون رقيقا للأرض ..
     ـ طبعا لا ..
     ـ إذن سأبحث لك عن عروس حلوة من الآن .. لتخلص نفسك من هذا الرق ..
     وحولت وجهى إليها فوجدتها تبتسم فى رقة ..
     ودخلنا بين أشجار الجازورينا الصغيرة .. واقتربنا من سياج بيتها ..
     وسمعتها تقول وهى تدفع الباب الخشبى الصغير :
     ـ اللمبة اللى فى غرفة مختار انطفأت مفيش نور .. خالص ..
     ـ طفاها الهواء ..
     ـ معاك كبريت ..؟
     ـ أجيب لك من البيت ..
     ـ لأ .. ندور جوا فى المطبخ ..
     ودخلت وانتظرت فى البهو .. وطال انتظارى وسألتها :
     ـ لقيتى ..؟
     ـ أبدا .. 
     وشعرت بالانقباض .. تشاءمت من انطفاء المصباح فى غرفة مختار .. وكنت أود أن أطمئن عليه قبل أن أذهب إلى بيتى وأنام ..
     وهتفت بسعاد فلم تسمعنى وتقدمت فى الظلام .. والتقيت بها فى الردهة وهى خارجة من المطبخ فاصطدم كتفى بها .. وعرفتها عندما ضحكت ضحكة مكتومة وغاب وجهى فى شعرها .. وشممت عطرها مرة أخرى وشعرت بنفس المخدر فلم أدفعها عنى وهى ترتمى على صدرى وتشدنى إليها وبحثت عن شفتيها فى هذه اللحظة .. خيل إلىَّ أننى أسمع باب مختار يصر ويدور على المزلاج .. وصوته ينادينى .. فتخشب جسمى كله ..
     ودفعت سعاد بعيدا وانطلقت إلى الخارج .. وأنا أعدو ونبحتنى الكلاب بشدة لأول مرة ..
*** 
     واستيقظت على صياح زكية .. ولما نظرت من النافذة رأيت نفرا من الفلاحين يجرون نحو الترعة ..
     وعلمت أن سعاد خرجت بالسيارة .. وسقطت بها فى الترعة ..
*** 
     وجاء طبيب المركز فى العصر .. وكشف على الجثة ..
     وسألته وأنا أغالب الدمع :
     ـ زكية .. قالت لى .. أن السيدة حامل .. فهل يمكن إنقاذ الجنين ..!!
     فنظر الطبيب طويلا .. وقال بهدوء :
     ـ لقد سمعت هذا الكلام .. والسيدة .. عذراء ..
     وعصرت رأسى بيدى .. فقد وجدت من يمزقنى بسكين .. فى كل موضع من جسمى .. ورحت فى غيبوبة ولم أحس بمن ينعى إلىَّ مختار ..
     وعندما رفعت عينى كانت ريح الخريف تهب شديدة من النهر وأوراق الشجر تتساقط .. والزهور الذابلة تحملها الرياح إلى بعيد ..











ـــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 359 بتاريخ 2/6/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــ

 

الطلقة الاخيرة


     كانت زراعة القمح هى الزراعة الغالبة فى قريتنا .. وكان محصوله يأتى بأجود غلة فى المنطقة على الإطلاق ..
     وكانت أيام الحصاد هى عيدنا كل سنة .. وكنا نتخلف عن المدرسة بسببها .. حتى وإن اقترب الامتحان .. وعندما يتكوم القش فى الأجران وتدور عليه النوارج .. كنا نشعر بالبهجة الحقيقية للإنسان ..
     وبعد الدريس .. نبدأ فى تذرية الجرن فى الليالى القمرية الطيبة الريح ..
     ولما تنفصل الغلة عن التبن .. ونراها فى أكوام مخروطية ضخمة يبلغ بنا الفرح مداه .. ونحرسها من « العين » بالنواطير .. التى نقيمها فى طريق المزرعة .. ونزيد من البركة .. بالقلة الفخارية الممتلئة إلى حافتها بالماء نغرسها فى الغلة ..
     وكانت أحسن أنواع القمح نزرعها فى الجزيرة .. حيث الأرض العذراء التى لم يمزق تربتها السماد ..
     وكانت الجزيرة تبعد عن القرية بمسافة أربعة فراسخ .. وتقع على العدوة الأخرى من النيل ..
     وكنا عندما نذهب إليها لندخل المحصول فى المخازن .. ننقطع انقطاعا كليا عن القرية ما يقرب من الشهر وكانت هذه الأيام هى أجمل أيام حياتنا .. كنا نحس ببراعم شبابنا تتفتح للحياة فى الشمس الضاحكة .. والهواء الطلق .. وكنا نستحم فى النيل .. ونجرى حفاة الأقدام .. ونصطاد السمك المتدفق من الفيضان .. ونشعر بأن حريتنا تأخذ كل مداها وكل طاقتها ..
     وكنا نقضى ساعة القيلولة فى الخص مستظلين من وهج الشمس الحامية نلعب الطرطقة .. والسيجة ..
     وكانت حولنا .. الماشية والطيور متروكة على سجيتها ، وهواها ..
     وكانت الجمال باركة تجتر .. والثيران والابقار فى صف واحد وأمامها التبن المخلوط بالفول والنخالة .. والجاموس بعد أن أستحم .. فى النيل .. نام على الحشائش وجلده يلمع تحت ضوء الشمس .. وطيور .. الدجاج .. والبط .. والأوز .. ترعى الحب .. كما اتفق .. وتستحم فى مجراة « الوابور » ..
     وكان بجوار الوابور .. صف من المساكن .. من الطين والبوص وجريد النخيل .. وكان الأطفال يلعبون فى الطين  والوحل .. وثيابهم ممزقة .. وعيونهم متسخة .. ووجوههم ملطخة بالوحل .. وأمهاتهم فى الداخل ينفخون النيران .. أو فى الخارج يملأن القدور أو البلاليص .. من مجراة الوابور .. أو ينحدرن فى الطريق إلى النيل .. وعلى رؤسهن الطرح ..
     فإذا جاء العشى .. افترشنا الدريس تحت السماء المتألقة بالنجوم وأخرج أبو طاحون المزمار الطويل من جرابه وأخذ يزمر .. وكانت عنده قدرة عجيبة على النفخ دون أن يسترد أنفاسه .. وبراعة فى إخراج أعذب الأنغام .. وكان جمالا قوى البدن يقود أربعة من الجمال الضخمة .. ويلبس نعلا طويل العنق مضفرا .. وإذا جلس إلى المزمار .. نسى نفسه .. واستغرق فى فنه .. وكنا عندما نجلس حوله ننسى أنفسنا كذلك وننسى كل ما يجرى فى الحياة الخارجة عن نطاق حدودنا ..
     وكانت لنا ثلاثة أجران كبيرة .. لا تتغير أبدا .. ولم نكن ننقص أو نزيد من مقدار الأرض التى نزرعها قمحا بمقدار قيراط واحد .. أو نغير من موقع الجرن .. كان كل شىء يجرى على ترتيب ونظام دقيقين .. منذ حياة جدى عبد المنعم .. فلما خلفه والدى سار على نسقه ومنهاجه ولم يغير طريقته وترك بيت « الوسية » يسير كما كان ..
     وكان الشىء المتصل بالحصاد دائما والذى يبرز بمجرد حدوثه .. هو حارس الأجران عمار .. وكان يحرس أجراننا منذ ثلاثين سنة .. ولم يغير فى خلالها موضع خصة المجدول بالليف ..
     وكان عمار .. فى الفترة التى سبقت هذا العمل من أشد الرجال بطشا .. كان اسمه يرعب القلوب الفتية ..
     وقد ظل الرجل طوال هذه السنين .. وحتى بعد أن انقطع عن حياة الليل .. محتفظا بكل جبروته .. وكل قوته .. وكان متوسط الطول يرتدى جلبابا من الصوف المغزول ولبدة حمراء وفى وجهه المستطيل نمش خفيف .. وفى عينية نظرة الليث إذا خرج من عرينه ..
     وحتى بعد أن كبر وانحنى جذعه قليلا .. ظلت النظرة الكاسرة من أبرز صفاته ..
     وكان حليما خفيض الصوت .. يجرد يده من السلاح .. فى النهار والليل .. وكان إذا حدث ما يثيره سمعت لبندقيته زئير الأسد ..
* * * 
     وكانت الجزيرة لرداءة مواصلاتها .. وبعدها عن نقطة البوليس تكثر فيها حوادث السرقة والنهب .. وقل من يتحرك فيها فى الليل لهذا السبب ..
     ولكن منطقة عمار كانت من أكثر المناطق أمنًا .. وكان الفلاحون يجلسون بجوار خصه ويلوذون به .. ليصبحوا فى المنطقة الآمنة ..
     وكان الرجل يسر جدا عندما أجىء إليه فى الأسبوع الثانى من شهر يونيه ومعى بعض الكتب التى أتسلى بقراءتها فى هذا المكان المنعزل ومع أنه لا يعرف القراءة والكتابة .. ولا فرق عنده بين الحروف العربية والحروف الصينية .. ولكنه كان يسر جدا من النور الذى يتصوره دوما يشع من الكتب .. وكنت فى نظره مثالا للشباب المتزن المتنور .. يقارننى بأبناء من يعرفهم من الفلاحين الذين يدفعهم الفقر والجهل إلى الجريمة .. ويشعر فى قرارة نفسه بالأسف لأن أولاده شبوا جهلاء مثله .. ولم يكن فى استطاعته أن يصرف عليهن ويعلمهن فى البندر ولم تكن هناك مدرسة فى القرية ..
     وكان عنده ثلاثة أولاد وبنت واحدة .. وكانت البنت متزوجة .. وأكبر الأولاد يعمل فى المراكب .. أما الولدان الآخران فكانا يعيشان معه .. وكان خليفة أكبرهم .. وكان فى العشرين من عمره .. طويلا مفتول العضلات .. وكان يرعى الغنم فى الجزيرة .. ومن الغروب .. يسرحها .. ويعود لبيته .. أما الولد الثانى تغيان فكان أصغر أولاده وكان يساعد والده فى عمله ..
***   
      وكنت على الرغم من وجود الكتب معى فى هذه المنطقة .. أشعر بالسأم من الحياة الرتيبة التى يعيشها الفلاحون ، وكان الخص فى مواجهة غيط من الذرة الشامية كان ملاصقا للاجران فكنت أرقب منه .. الفلاحين وهم يعزقون الأرض ويسقون الزرع .. من مجراة الوابور .. وكنت كثيرا ما أسمع صراخ النسوة فى البيوت القريبة منا .. ثم أرى على الأثر جموعا من الفلاحين خارجين من الغيطان بفئوسهم وهراواتهم .. ومن عيونهم يطل الشرر ..
     ولكن مجرد ظهور عمار من بعيد كان يغير الموقف فى الحال ويطفىء هذه النار المشتعلة .. وينسحب الفلاحون وتنفض جموعهم قبل أن يقترب منهم .. لم يكن أحد منهم يجرؤ حتى على رفع صوته فى حضرته ..
     وكنت أسأل عن سبب هذا العراك فأعرف أن نعجة لفلاح أكلت من غيط فلاح آخر .. ولهذا السبب التافه تدور المعركة الحامية التى تسيل فيها الدماء .. ولولا وجودعمار فى تلك الساعة لسقط أكثر من صريع .. كانوا يتعاركون لاتفه سبب ويقضون النهار فى منازعات على القيراط والسهم ويتوجسون شرا من كل إنسان .. فما من إنسان ينفعهم أو يرعى حالهم وانما الكل يأخذون منهم ولا يعطونهم شيئا ..
     وكان هذا الاحساس بالظلم ينفجر عندهم فى ظلام الليل ويدفعهم إلى السرقة وإلى السطو على العزب والقرى المجاورة ..
***
     ولم أشاهد فى الأسبوع الأول والثانى من إقامتى فى هذا المكان .. إلا الوجوه التى ألفتها .. ولكن بمجرد ظهور الغلة ظهرت الرجل الغريبة .. ظهر الباعة على الحمير ومترجلين يبيعون المناديل الزاهية .. وأثواب الدمور والشاى والدخان .. وقطع الصابون المعطرة ..
     وكانوا يأتون من البندر ومن القرى المجاورة ..
     وفى عصر يوم مرت على الأجران امرأة وكانت تحمل على رأسها صرة كبيرة فيها كل ما يحتاجه الفلاح .. من دخان .. ومناديل .. وكل أصناف الأقمشة الشعبية .. ولما رأتنى وحدى فى « الخص » اقتربت منى .. ورأيت لها وجها صبوحا وعينين دعجاوين .. وفما غليظ الشفة وحسنة كبيرة على الخد وحلقة مغروسة فى الانف الدقيق .. وعرضت كل ما عندها من بضاعة.. وألحت لأشترى منها شيئا بدلال الأنثى الناضجة .. ولكنى رفضت.. فذهبت بهدوء إلى النخيل ..
     وفى اليوم الثانى جاءت فى نفس الميعاد تعرض بضاعتها ، وأصبحت تجىء كل يوم ..
     وعرف الفلاحون أن اسمها ناعسة .. وكنا لا نستطيع أن نشترى منها شيئا لأننا كنا نتعامل بالغلة .. وكنا لم نضرب الكيلة فى الغلة بعد ..
     ونتشاءم جدا من مس أكوام الغلال قبل أن ندخل شيئا منها فى البيوت ..
     وفى عصر يوم شاهدتها .. ترقص على مزمار أبو طاحون .. وكانت مثيرة فى رقصها وحركاتها .. والبريق المشع من عينيها ..
     وظل السامر مشتعلا إلى الليل .. ثم أطفأت بفمها النار .. وانثنت وحملت صرتها .. وذهبت إلى النخيل .. وظللنا نتبعها بأبصارنا حتى توارت ..
***   

     وشغلنا فى صباح اليوم التالى بإدخال المحصول .. بدأنا بأول جرن وأخذت الجمال تحمل الزكائب وتسير فى صف طويل ..
     وكانت قوة الشباب من الفلاحين .. تظهر فى أثناء هذا العمل .. كانوا يعملون من شروق الشمس إلى غروبها دون كلل .. وكان منهم من يرفع الزكيبة فى رفعة واحدة ..
     ولاحظت من اليوم الأول أن خليفة ابن عمار .. هو أشد الفتيان قوة ..
     كان يبزهم جميعا .. يرفع عشر كيلات فى رفعة واحدة ..
     وكان والده ينظر إلى قوته فى فخر وزهو ..
     وكان تخزين المحصول يستغرق خمسة أو ستة أيام ..
     وكان عمار فى هذه الأيام لاينام فى الليل أبدا .. لأن سرقة كيلة من القمح كانت تأتى للفلاح بثوب من الدمور ..
     وكانت زراعة الذرة ملاصقة لنا .. ومن السهل أن يتسرب منها اللص إلى الجرن ثم يعود ويختفى فيها ..
      وكان الرجل مرهوبا بطبعه .. ولم يكن هناك إنسان يجرؤ على الاقتراب منه .. ولكن الشيطان لايفتأ يوسوس فى صدور الناس .. ولذلك تنبغى اليقظة دائما ..
     وكنا بعد أن نكيل الغلة فى آخر النهار .. نسوى « الهدار » ونعلمه .. حتى إذا سرق منه شىء فى ظلام الليل عرفنا ..
     وكنت أنام قريبا من الغلة .. على حرام ومخدة .. وتحت رجلى بطانية .. ولم أكن استعملها إلا لأتقى بها الناموس ..
     وكان عمار ينام قريبا منى وحولنا الفلاحون المشتغلون فى الجرن .. وكنت أنام فى معظم الليالى بمجرد أن أضع رأسى على المخدة لانى كنت أطمئن إلى حراسته ..
     وذات صباح استيقظت مبكرا على صياح فلاحة قريبا منا .. وسمعتها تقول :
     ــ الأولاد .. سرقوا البقرة .. ياعمار .. وكان دليلهم ابن عبد الصبور ..
     ورد عليها عمار
     ــ ابن عبد الصبور .. لا يأتى بالناس الغريبة إلى هنا .. ولا يسرق .. روحى ابحثى عن السارق ..
     ــ هو الذى سرقها .. وباعوها .. وأخذوا الفلوس .. وبيروح بالفلوس عند « الغازية » فى النخيل ..
     ــ روحى ياولية .. روحى .. ابحثى عن السارق الحقيقى .. فلا يوجد عندنا من يسرق ..
     قال هذا عمار بغضب .. فذهبت المرأة ..
     وفى الضحى وكنا جالسين فى الخص مر علينا ابن عبد الصبور .. فصاح فيه عمار ..
     ــ انت ياولد .. يا حمدان ..
     ــ نعم ...
     ــ روح هات .. بقرة فطوم .. كما أخذتها .. وفى الظهر تكون البقرة هنا.. فى الظهر .. وإلا أنت عارف ما سيحدث لك ..
     ــ أنا لم آخذ بقرا .. من أحد .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
     ــ الأحسن لك ان تأتى بها .. وأنا منتظر ..
     ــ أنا لم آخذ البقرة .. ولا أعرف زريبة فطوم ..
     واستمر يصيح هكذا .. ولم يرد عليه عمار ..
     وقبل أن ينتصف النهار رأينا البقرة مقبلة وحدها بين الغيطان ..
***   
     وفى صباح يوم من أيام الاثنين بدأنا « ندخل » غلة الجرن الثانى .. وبعد أن انتهى الكيل .. سوينا الغلة الباقية وعلمناها كالعادة .. ولاحظت فى ندى الصباح بعد أن طلع النور ان هدار الغلة .. قد جرح وأخذ منه .. نصف أردب على الاقل .. لم احدث عمار .. بالذى حدث ولكننى لاحظت بعد ان دار دورتين حول أكوام الغلال كعادته .. ان سحنته قد تقلصت .. ولم يحدثنى بشىء .. ولكنه ظل طول النهار ..متجهما على غير عادته .. وكان يقلقه ان يلاحظ الكيال .. والفلاحين الذين يشيلون الزكائب .. فتضيع هيبته فى الجزيرة ويسرى الخبر حتى يصل إلى القرية ..
***
     وفى الليل .. لما جلسنا على الجرن قريبا من الغلة لاحظت انه لايزال مشغولا بما حدث .. وأخذنا نشرب الشاى ونتحدث ولف لنفسه سيجارة .. وأخذ يدخن ..
     ومر بنا فى الطريق الزراعى ثلاثة عساكر على الخيل .. وكانوا يسرعون ..
     فسألت عمار ..
     ــ هل حدث شىء فى الجزيرة ..؟
     ــ ابن عبد الموجود .. ضربه أحد الصيادين بالنار ..
     ــ وقتل ..؟
     ــ لا .. جرح .. فقط ..
     ــ ومن المعتدى ..؟
     ــ الفلاح .. طبعا .. إن الصيادين مساكين يسعون لرزقهم .. ويتعرضون فى الليل .. للأمواج والبرد .. والرياح الهوج .. ولكن الفلاح لايرحمهم .. عندما يراهم يجرون الشباك على الشاطىء .. يريد أن ينتزع منهم رزقهم بالقوة فى لحظة .. الرزق الذى سعوا له طول الليل .. وهنا يحدث الصراع ..
     ــ وهل هم هنا مسلحون دائما ..
     ــ أبدا .. ان الفلاحين .. هم الذين علموهم هذا أخيرا ..
     ــ إن الذى بيده السلاح .. من السهل عليه أن يطلق النار .. وأن يقتل ..
     ــ وهذا ما يحدث فعلا .. مع الأسف يابنى ..
     ــ وهل تأسف على القتل يا عم عمار ..؟
     ــ بالطبع يا بنى ..
     ــ ما أكثر الذين قتلتهم .. فى حياتك ..
     ــ أنا .. من الذى حدثك بهذا يا بنى ..
     ــ الفلاحون ..
     ــ أنهم كاذبون .. وينسجون الحكايات من الأوهام ..
     ــ ألم تقتل أحدا .. وأنت رجل الليل ..
     ــ أبدا .. يا فتحى افندى .. ابدا .. أيخلق اللّه الإنسان لنقتله .. إن هذا لا يمكن أن يحدث .. ان اللّه الذى خلقه وهو الذى يميته ..
     ــ وفى الليل .. ألم تضطر إلى اطلاق النار ..
     ــ كثيرا ... ولكن للإرهاب فقط .. الذين كنا نسرقهم .. كنا نرهبهم فقط .. كنا نسرق المواشى .. وكنا نسطو على السرايات .. ونسرق الخزن .. كان الأغنياء يودعون كل نقودهم فى بيوتهم .. لم يكونوا يضعونها فى البنوك كما نرى الآن .. ومرة دخلنا على رجل غنى فى حجرة نومه .. وكان مفتاح الخزانة تحت المخدة .. فقبض عليه فى يده واستمات فيه .. وكنت أستطيع أن أقتله .. وأن آخذ منه المفتاح .. ولكننى أمرت الرجال بتركه .. وخرجنا دون سرقة .. لأنى أعرف أن القتل جريمة لا تغتفر ..
     ــ ولكن فى حياتك الطويلة .. ألم يحدث مرة أن أطلقت النار وقتلت شخصا .. ولو عن غير قصد ..
     ــ أبدا .. يافتحى أفندى .. إن البندقية فى يدى .. لأحمى بها نفسى ..
     ولكن حدث لى حادث رهيب منذ سنوات .. وسأحدثك عنه .. وما حدثت به إنسانا سواك ..
     وتجهم وجهه قليلا ..
     وقال وهو يرسل الدخان الأزرق فيتلوى فوق رأسينا فى الريح الساكن ..
     ــ حدث فى سنة 1919 .. وكانت الثورة قد انطلقت فى كل مكان مرة واحدة من الإسكندرية إلى أسوان .. كنا نحارب الانجليز عند قرية الوليدية .. وكنا وراء الأحجار .. التى كانت معدة لتدعيم خزان أسيوط وأخذنا نصليهم بالنار كانوا على مبعدة أمتار منا فقط وكانت حالتهم فى غاية السوء ..
     كنا قد حاصرناهم عند الخزان وفى المدرسة الثانوية .. سبعة أيام كاملة وعلى وشك أن نبيدهم جميعا وقد قطعنا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد ومن كل طريق وفعلنا كل ما يفعله القائد المدرب فى الحرب مع أنه لم تكن لنا قيادة على الإطلاق .. ولكنا كنا نحارب بفراسة الرجال الشجعان ..
     وكان رفيقى فى الموقع زيدان وكان أحسن رجل فى ضرب النار .. وكان من البراعة فى التصويب بحيث أذهل كل من حولنا ..
     وفى أثناء انتصارنا الباهر .. ظهرت طائرة للأعداء فوق رءوسنا كانت قادمة من القاهرة .. ولم نكن نعرف شيئا عن الطائرات .. وأخذت تلقى القنابل فتغير الموقف .. وذعر الفلاحون وطاروا على وجوههم ...
     وجريت وأمامى زيدان على الرمال بين النخيل .. ثم غاب عنى ولم أكن أعرف أين ذهب ..  ثم بصرت به وأنا أمشى .. مكوما تحت شجرة .. وكانت القنبلة قد مزقت جسمه ولكن بقيت فيه الروح ..
     وحملته وسرت به طويلا فى الظلام .. والدم يلطخ وجهى وثيابى .. وكان الدم قد أعمى عينيه .. ثم وجدته يتعذب .. ووجدت نفسى أكثر عذابا منه ولا أدرى من أين جاءنى الخاطر الرهيب لأتخلص منه .. فقد وجدت ما بقى من جسمه مسخا مشوها .. لا يجعل منه رجلا على الإطلاق .. وقدرت انه سيعيش ساعات .. ربما بقى إلى الصباح .. وربما يموت قبل ذلك .. ولكنه سيتعذب عذابا كبيرا فى أثناء هذه المدة .. عذابا لا يحتمله إنسان .. فلماذا لا أريحه من هذا العذاب .. مادام أنه سيموت حتما .. ولماذا أجعل أهله يرونه على هذه الصورة البشعة .. وألقيته .. على الأرض .. وبعدت عنه ثم استدرت إليه وأطلقت عليه طلقه واحدة وأنا أغلق عينى .. وسرت فى طريقى ..
     وبعد أن تركته كنت أتصور أننى استرحت منه ومن العذاب إلى الأبد .. ولكن لما رجعت إلى البيت .. ووضعت رأسى على الحرام نهشت رأسى الافكار المدمرة .. وأدركت أن العذاب بدأ من هذه الساعة ..
وقلت لماذا قتلت زيدان .. وهو شاب فى ريعان شبابه ربما أمده الشباب بالقوة وعاش .. من يدرى .. لماذا أنهيت حياته فى غير الساعة التى أرادها اللّه ... أيخلقه اللّه لنميته نحن ..
     وظللت فى عذاب مدمر .. ثلاثة أسابيع كاملة وكان وجهى أسود .. وسحنتى سحنة مجنون .. ولم يعرف أحد من أهلى ... ما جرى .. لم يعرف أحد سرى .. وكنت قلقا ملتاعا .. ووجدت أخيرا ما يشغلنى عن هذا العذاب .. خرجت فى الليل لأسطو ... على العزب .. واستغرقنى هذا العمل ووجدت اسمى يدوى كرجل رهيب .. ولولا أن جدك عبد المنعم أعادنى إلى صوابى .. وجعلنى حارسا على أجرانكم .. لعشت فى الضلال إلى الموت ..
     صمت عمار .. وأخذ يدخن .. وبدت خيوط من الظلال الكثيفة تزحف علينا ..
وقد عجبت لما فى النفوس البشرية من أسرار ...
وغلبنى النعاس فنمت ..
***
     وفى الصباح .. رأيت أن الغلة .. قد سرقت أيضا ورأيت فى عينى عمار أنه يعرف أن الغلة جرحت .. فصمت وتألمت لحاله .. وأنا أرى الرجل يكتم غيظا لا حد له ..
***
     وسهرت ذات ليلة .. وأنا أتناوم .. لأحاول أن أكتشف السارق .. ثم غلبنى النعاس .. ولما فتحت عينى .. وجدت .. عمار .. يصوب بندقيته .. ولمحت شيئا فى الظلام يجرى سريعا ودخل الذرة .. فأطلق وراءه عمار طلقة واحدة ..
     ولما أسرعنا إلى هناك لنعرف السارق .. ذهلنا لما أصبحنا على قيد خطوة منه .. فقد كان خليفة ابنه .. وكان ملقى على وجهه وبجانبه الزكيبة وقد سالت منها حبات من القمح على الأرض .. وكان قد أصيب فى مقتل ..
     وظل عمار فى مكانه مفتوح العينين .. وقد تجسمت ملامحه من هول الموقف ووجوه الفلاحين أشد ذهولا منه ... وما نطق واحد منا بكلمة .. أصبنا جميعا بالخرس الحقيقى ..
     وأحسست بشىء ثقيل يجذبنى ويشدنى إلى الأرض .. ولكننى تماسكت ووقفت ساهما .. وقد تغشت عيناى ..
     وسقط رأس عمار .. ثم أخذ يحملق فى بنظرة كئيبة .. وقد خرس لسانه .. ولا أدرى هل مرت عليه السنون فى هذه اللحظة .. وتذكر الرجل الذى صرعه هناك بين النخيل .. فقد بدا فى عينيه شعاع الفزع الذى يعتصر الإنسان حين يواجه ما قدر له .. ثم ما لبث الشعاع أن انطفأ .. وعاد يدير فينا عينين مظلمتين ..
     وكان ضوء القمر قد بدأ ينتشر خلفنا هناك .. فى شاطىء النهر فلمحت امرأة أعرفها .. لمحت ناعسة على رأسها صرة .. وأمامها دابة تحمل زكيبة كبيرة وغلامان صغيران ... وخلف هذا ثلاث عنزات .. وكانوا قد تركوا النخيل وأخذوا يسرعون فى طريق المعدية ..
     ونظرت إليها لحظات ثم رددت بصرى إلى القتيل الراقد هناك ..
     وعجبت لتصاريف القدر وما يعده للإنسان ... فى أشد لحظات أمنه ..
     وكان عمار لم يغير مكانه .. ولكن كان قد ترك البندقية من يده .. ونظر شاردا إلى هناك فلا أدرى هل رآها وهى تمضى وراء قطيعها ام لا .. ولكنه على اى حال لم يتحرك .. ظل فى مكانه ينظر الينا بعينين تائهتين ..
     وكانت البندقية لاتزال ملقاة بجانبه .. وما أمسك بها بعد ذلك ابدا .. فقد كانت هذه هى الطلقة الاخيرة ..


================================================= 
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1079 بتاريخ 2/10/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " سنة 1962
======================================== 







الطوق

     تقع قهوة أفروديت فى شارع عبد الخالق ثروت بحى قصر النيل .. وهى قهوة صغيرة وجميلة كربة الجمال عند الإغريق .. ويملكها رجل أجنبى .. يديرها بعقل الفنان وحسه ..
     وكانت واجهتها فى قطاع صغير مستعرض .. ولكن القهوة نفسها مستطيلة جدا وذاهبة إلى جوف العمارة .. وتمتلىء بالرواد .. ولاعبى النرد .. وشاربى الخمر والمتسكعين الذين يرقبون النساء المارات فى حى متألق يضم أعظم نسبة من الجمال .. وأعظم ما فى القاهرة على الإطلاق ..
     كما أنها منتدى لنخبة من سماسرة السيارات .. لا تجد لهم نظير فى أية مدينة أخرى .. فتستطيع بواستطهم أن تشترى العربة .. البويك .. والشيفروليه والفورد ..والكاديلاك .. وتبيعها فى الفترة التى تشرب فيها فنجان القهوة .. إنهم رجال من ذوى الخبرة ويزاولون هذه الحرفة منذ ثلاثين سنة بمهارة تجل عن الوصف ..
     وكان فنجان القهوة بقرش ونصف القرش .. ثم أصبح بقرشين .. ثم أصبح بثلاثة قروش ورغم هذا لم ينقص من القهوة زبون واحد ..
     وموائد المقهى وكراسيه موضوعة .. فى نظام .. وعلى تنسيق رائع .. والإضاءة قوية .. وعلى الحوائط والجوانب تجد مرايا من الزجاج الملون .. تعرض اعلانات براقة لأصناف من الويسكى والبراندى ..
     وتقرأ بجانبها لافتات تحذر من لعب القمار .. فهو ممنوع على الرواد بكل أنواعه وأشكاله ..
     ولكن كل صنوف القمار تلعب فى هذا المقهى .. من الساعة الثامنة صباحا ..
     وعندما تجرى الخيل فى حلبة السباق .. تكون فيشات الخيل تجرى على أشدها فى المقهى ويصبح كساحة البورصة .. وبعد كل نصف ساعة تعلن النتيجة .. وتجد الغضب أحيانا يتحول إلى الجوكى وأحيانا أخرى إلى الحصان ثم إلى صاحبه .. وأحيانا إلى الاسطبلات نفسها ..
     ونصف رواد المقهى ومعهم الجرسونات يلعبون السباق .. وفى أيام السبت والأحد يصبح المقهى كخلية النحل .. والنصف الآخر يلعب الطاولة .. لعب المقامر .. فى النهار والليل .. على موائد متلاصقة يتصاعد منها الصراخ والضجيج فى كل لحظة ..
     ورغم الطاولة .. وصياح اللاعبين وضجيجهم والدخان الذى يتصاعد فى خطوط زرقاء إلى السقف فالمقهى .. يجذبك إليه بسحر لا يوصف ..
     وتجد نفسك بعد نصف ساعة قد الفت الوجوه كلها وأحببتها ..
     وقل أن يجتمع فى قهوة أناس من كل الأجناس وكل الأشكال كما يحدث فى قهوة افروديت ..
     ومهما يكن الضيق الذى تحس به .. فإنك ستشعر بأنه قد زال عنك كلية عندما تندمج فى جو المقهى .. ويأخذك السحر من المكان كله ..
     وتدخل أشعة الشمس القهوة فى النهار .. وتشيع فيها الدفء .. وفى الليل .. تغلق الأبواب والنوافذ الزجاجية ويصبح المكان من عبق الدخان والأنفاس المترددة فى جوانبه كالحمام التركى ..
     وكلما انفرج الباب ودخل شخص إلى المقهى .. هبت لفحة من الريح الباردة من الخارج ولكن الأنفاس الحارة فى الداخل تمتزج بها بعد لحظات وتتفاعل معها ويعود الدفء كما كان ..
     ويظل المقهى عامرا بمن فيه حتى الساعة الحادية عشرة ليلا .. ثم يخف الرواد ..
     وكان الجرسون " لمبو " .. يعمل وحده هذه الليلة .. والساعة تقترب من العاشرة والربع ..
     وكان هناك زبون معروف جلس فى الركن الذى اعتاد أن يجلس فيه كل ليلة ولكنه فى هذه الليلة كان أشد ما يكون كآبة وصتا ..
     كانت عيناه حمراوين .. ورأسه منكسا ويميل بهما إلى جانب ..
     وكان الجرسون ومن بقى من الجالسين فى القهوة يحدقون فى وجهه .. من حين إلى آخر ليتأكدوا أنه لم يمت بالسكتة ..
     وكانت تضايقه هذه النظرات وتلهب حواسه أكثر من الفجيعة التى حلت به ..
     كان شعبان ماسح الأحذية فى المقهى .. أول من رأى الشرطى .. وهو يسحب عبد الحميد إلى نقطة كوتسيكا .. فذهب وراءه وعلم بالخبر ورجع يتحدث بما سمع ..
     ودخل عبد الحميد بعد ساعتين المقهى وهو يجر رجليه وجلس فى مكانه صامتا دون أن يحدث أحدا .. وما لبث أن أطرق .. وغامت عيناه وسقط فكه وضغط على عنقه وتهالك فى مجلسة ..
     وكان بطبعه مرحا .. يأخذ الدنيا كما تجىء ولكنه لم يكن يتوقع هذا الخبر أبدا فشله وأخرسه تماما ..
     وانقضت عليه ساعة منذ رجع من النقطة وهو فى ذهول مطلق .. ولم يكن يدرى أين هو ولم يكن يحس بأى شىء على الاطلاق ..
     ولم يجرؤ انسان ممن يعرفه فى المكان على الاقتراب منه ..
     ولما رجع إلى نفسه أدرك أن شعبان .. نقل الخبر إلى لمبو .. وإلى الجالسين فى المقهى وأن الجميع يحدقون فى وجهه لهذا السبب .. واشتعل رأسه وأحس كأن النار تحرقه ..
     ولقد مرت به كوارث كثيرة فى خلال السنوات التى أعقبت الحرب العالمية الثانية ولكنه لم يصب فى الصميم كما أصيب فى هذه المرة ..
     كان يتاجر فى مخلفات الحرب وكسب الألوف وضاعت منه هذه الألوف فلم يحزن عليها كما هو حزين الآن ..
     كان عساكر الإنجليز يأتون إليه باللوريات محملة بالبطاطين .. والمأكولات المحفوظة .. والمعاطف والملابس .. وكان يشتريها منهم ببضعة جنيهات ويبيعها بالألوف ..
     وكون ثروة ضخمة وتزوج فى بداية الحرب وخلف من زوجته بنتا واحدة وماتت الزوجة ..
     فلم يتزوج بعدها .. وأخذ يلعب بالمال .. وعاش لنزواته وشهواته .. ونسى البنت .. نسيها تماما ..
     ثم ذهبت ثروته التى كونها خلال الحرب .. انفلتت من بين أصابعه كالماء وضاع منه الذهب ولكنه ظل يحلم به ..
     وحاول أن يسترد ثروته مرة أخرى ..
     وكان يرى الجالسين يلعبون على الخيل فى فترة الظهيرة .. وسحرته اللعبة ..
     ولعب بجنيه واحد ومن وقتها وهو يلعب .. ويقامر .. ويحلم بأن يكسب .. ويعوض ما فات ويأتى بالذهب كما كان ..
     وكانت له دراية بالسيارات فاشتغل سمسارا يبيع للزبائن ويشترى لهم ..
     وكان يكسب كثيرا من عمولة السمسرة .. ولكن ما يكسبه كان يذهب على الخيل ..
     وكان يقضى الوقت كله فى المقهى .. ويأكل ويشرب فيه ..
     وكان يدخن بكثرة .. ويسكر .. أيضا منذ ساءت أحوال التجارة .. وكان يحاول أن يقلع عن الكأس وعن لعب السباق وكل ما يتصل بالقمار والمقامرة .. كان يحاول أن يقلع عن هذه الأشياء كلها بعد أن عرف أن لا جدوى منها .. ولكنه لم يستطع .. كان هناك طوق يطوق عنقه .. ولم يستطع الفكاك منه .. وكانت الخسارة فى السباق تدفعه إلى الكأس .. والكأس يجعله يسهر ويرضى رغبات حواسه .. وارضاء رغباته الحسية كانت تبعده عن البيت فهو لايستطيع أن يأتى معه .. بأمرأة إلى بيته .. عنده فتاة كبيرة .. فكان يترك الفتاة فى البيت تسهر وتنام وحدها .. ويذهب هو إلى الشيطان ..
     كان يعيش فى دوامه .. نسى فيها نفسه .. ونسى أن له بنتا فوق العشرين لم يرعها قط ..
     وقد استفاق الآن .. ولكن بعد فوات الأوان .. وأحس برأسه تتمزق بالسكين فطلب من " لمبو " كأسا من البراندى .. ثم كأسا أخرى وظل يشرب .. وكان لمبو قد علم بما حل بالرجل فلم يعجب لصمته وكآبته .. وكان يود أن يواسيه .. ولكنه كان يعرف أن هذه الأشياء لا تنفع فيها المواساة ..
     وكان عبد الحميد .. يرقب الشارع عبر الزجاج ..
     وكل شىء يلفه الضباب أمام باصرته ..
     ولم يشعر فى حياته كلها بمثل هذه الكآبة وكان الفزع يأتيه من داخله .. ويخاف أن يصيبه الشلل وهو جالس ..
     وأعاد صورة ما حدث أمام ذهنه .. فأصر على نواجذه ..
     وخرج من المقهى إلى الطريق وهو لايدرى إلى أين يتجه .. ولم يكن يحب أن يذهب إلى بيته أبدا .. ودار نصف دورة ثم اتجه إلى شارع النمر .. وفى تلك اللحظة رأى رجلا يعبر الشارع ويتجه إلى الرصيف الآخر .. رأى رجلا لم يكن يتوقع أن يراه أبدا للمرة الثانية فى هذه الليلة .. رآه يمشى وهو يمسك فى يده سلسلة ذهبية والابتسامة تلمع على شفتيه .. لقد أطلقوا سراحه بالضمان وربما بغير ضمان .. لأن الفتاة ليست قاصرا ..
     كان منفوخا كالطاووس وهو يتجه إلى شارع سليمان باشا ويده لاتزال تحمل السلسلة وفى أصبعه خاتم من العقيق ..
     وأحس عبد الحميد بالنار فى أحشائه .. فتحرك من مكانه وأسرع مهرولا يتبين الرجل ببصره قبل أن يغيب فى الظلام .. وكله نظرات .. ثم تبعه بخطى وئيدة حذرة ..
     وكان الرجل يمشى على الرصيف الأيسر مسرعا دون أن يتلفت .. فجعل عبد الحميد المسافة بينهما أطول خشية أن يحس به الرجل .. وركز حواسه كلها فى بدلة بنية وشخص فارع القوام يتحرك فى خط مستقيم أمامه ..
     وفى ممر بهلر انحرف الرجل تحت البواكى فى الشارع المعتم الذى كانت تضيؤه الحوانيت ..
     وأحس عبد الحميد بالفرحة .. أحس بأن شيئا جديدا قد تسرب إلى ألياف لحمه وغمره بقوة دافقة .. فقد انفرد فى الشارع المهجور المظلم بغريمه لأول مرة ..
     أن القدر يعد له كل شىء .. ويعينه على تحقيق كل ما يبتغيه .. وأسرع وراء الرجل قبل أن يغيب عن بصره ..
     ودخل الرجل فى جوف عمارة من العمارات الضخمة فى الممر .. ووقف عبد الحميد لحظات يرقب ما حوله قبل أن يدخل العمارة ..
     وعندما اندفع من الباب لم يجد البواب فى المدخل .. ولكنه وجد الرجل قد دخل فى المصعد وتحرك به .. فعض عبد الحميد على نواجذه ..
     وكان الرجل قبل أن يستقل المصعد قد ضغط على نور السلم كله وأضاء معه ذهن عبد الحميد بفكرة سريعة وهو واقف وحده فى المدخل يسدد بصره إلى كل شىء حوله .. وكانت ضربات قلبه تتلاحق ..
     ونظر حوله فلم يجد أحدا ولم يسمع حسا .. فأسرع على السلم ولكن النور انطفأ بعد لحظات .. وكان يود أن يصعد فى الظلام ولكنه لم يكن يعرف طريقه .. فتحسس الجدار بيده حتى عثر على زر الكهرباء وضغط عليه .. وأسرع يصعد السلم وثبا وعيناه ترقبان المصعد المتحرك .. ورآه يقف فى الدور الثالث ..
     وعندما وصل عبد الحميد إلى البسطة .. كان الرجل فتح باب شقته بالمفتاح الذى معه ودخل ..
     ووقف عبد الحميد وحده فى الظلام على البسطة وفى نفسه الإحساس بالمرارة .. فقد انفلتت منه الطريدة وغابت وراء الجدران ..
     وطالعه الصمت والظلام من كل جانب ثم رأى المصعد يتحرك مرة أخرى وأنواره تضىء قليلا وتكشف المكان .. فارتد على فوره حابسا خطوه وابتعد .. وغاب فى ردهات الطرقة الطويلة المظلمة ..
     وما لبث أن عاد إلى مكانه بعد أن خيم السكون ووقف على باب الرجل مرة أخرى .. كان العرق فى هذه اللحظة قد أخذ يتفصد منه ..
     ووجد احساسا قويا يدفعه إلى أن يشعل ثقابا ليقرأ الرقم الذى فوق الباب ..
     ولم يعرف الغرض من هذا على وجه التحديد ولكنه شعور عارم تملكه فى هذه الساعة .. ولم يستطع التخلص منه .. ولعله خشى أن يتوه عن الباب فى زحمة الشقق المحيطة به .. وقرأ الرقم " 36 " وكان يحدق بقوة ..
     ثم بعد عن الباب ونظر إلى المنور فوجد العمارة كلها ساكنة وقد كتمت أنفاسها وضغط على الجرس وشعر بصدى الرنين يتردد فى الداخل .. أعقبه صمت أخرس .. ثم رأى النور يضاء فى داخل الشقة وتبعته خطوات بطيئة أخذت تقترب منه ..
     وابتعد عن الباب والتصق بالجدار حابسا أنفاسه وعيناه مركزتان من جانب على جذع الباب الصامت .. وتحرك الباب بثقل ثم أطل وجه الرجل .. ولما لم يجد أحدا خرج بجسمه كله .. وأخذ يتلفت باحثا عن الطارق ..
     ورأى عبد الحميد الرجل يبحث عنه فالتصق بالجدار أكثر وأكثر .. ثم تجمع ووثب عليه وأمسك بعنقه وضغط بكل قوته وبكل ما فى نفسه من غضب ..
     وصرخ الرجل صرخة حادة ودفع عبد الحميد أمامه إلى داخل الشقة ..
     وتصارع الرجلان صراعا جبارا فى صالة البيت وهما يتقلبان على الأرض وأيديهما كأنها مخالب من حديد ..
     وفى اللحظة التى تمكن فيها عبد الحميد من عنق الرجل ليكتم أنفاسه للمرة الأخيرة .. سمع بكاء طفل .. فرفع رأسه وتلفت .. فوجد أمامه سيدة وعلى صدرها رضيع ..
     وأحس بهزة قوية شلت حركة يديه .. فترك عنق الرجل الذى كان قد غاب عن الوعى ..
     ونظر عبد الحميد إلى السيدة فرآها جميلة بل أجمل من كل ما رآه من النساء .. فأخذ يسأل نفسه .. أتعرف هذه السيدة ما حدث ..؟ أتعرف أن زوجها خنزير خرج فى الليل بسيارته مع فتاة صغيرة واغتصبها فى الظلام ..؟ أتعرف ذلك ..؟ إن وجهها الصامت لا يدل على أنها تعرف .. وتحركت إلى التليفون فأشار لها بيده .. فوقفت فى مكانها .. والتقت نظراتهما .. وبدا كأن شيئا خفيا قد وضح ..
     وخطا نحو الباب وكان بعض السكان قد تجمعوا أمامه .. فلم يأبه بهم .. وخرج صامتا مفسحا لنفسه طريقا بينهم ..
     ولم يعترض طريقه أحد .. فقد أشارت لهم السيدة بأن يتركوه لشأنه .. كانت قد بدأت تشعر فى أعماقها بمأساته كاملة











ــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . المساء بالعدد 1228 فى 20/2/1960 وأعيد نشرها فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــ   









الكردان
      

     كان العشى يزحف على القرية .. وتسربت خيوط الظلمة إلى داخل الأفنية وبدت السنة الدخان الأسود تتصاعد من سطح البيوت .. إيذانا باعداد العشاء للرجال العائدين من الحقول .
     وكان الهواء ثقيلا فى داخل المنازل وخارجها .. وظلت الدواجن والفراريج رغم الظلمة الهابطة تنقر الأرض الجافة حول المساكن .. وفى أطراف البساتين .
     وكانت حوافر الدواب تحفر على الجسر فى الأرض المتربة .. والكلاب تتوثب وهى تنبح بشدة .. كلما دخل القرية فوج جديد .
     وأخذت أسراب من الأوز والبط والديكة تصرخ وهى تجرى باحثة عن ملجأ من هذه الأرجل العمياء .
     وظلت الأبقار تثغو .. كأنها تنادى .. عجولها الصغيرة .
     وكانت القرية مشهورة بأبقارها السمينة إذ أنها تطلقها ترعى على هواها فى أرض الجزيرة البكر طوال السنة تحت الشمس الضاحـكة .. والهواء الطلق .. فتنـمو كالعشـب البرى مكتنزة سليمة .
     وعندما تغمر الجزيرة مياه الفيضان فى سبتمبر من كل عام وتغرق الصوامع والزرابى تنقل المواشى إلى القرية . 
     وكان عبد الرحمن فراج وهو فلاح كادح من أهل القرية .. يعنى بتربية العجول .. ويملك أحسن قطيع للماشية .. وكان قطيــعه يأتى مع آخر فوج .. ووقف على الجسر ينتظره .
     وكان ابنه حسان يسوق البهائم إلى القرية قبل أن تطفل الشمس .
     وكانت تسير فى طريق الوادى المقفر وقد اعتاد الفلاحون على سلوك هذا الطريق ليختصروا من المسافة أربعة فراسخ .
     وكان عبد الرحمن يتوقع عودة قطيعه فى الغروب فلما تأخر ترك الجسر وخرج لملاقاته فى البرية وتقدم الرجل فى خط مستقيم تجاه النيل .. وبعد أن ابتعد بمقدار فرسخين عن القرية .. انتابته الهواجس .. وخشى أن يكون ابنه قد أصابه مكروه .. فسرقت منه البهائم وقتله اللصوص .. وجعله هذا الخاطر يسرع فى مشيته ويشحذ حواسه .. ولما بلغ بطن الوادى أحس بأنفاس التراب الذى تحته وبالهواء الراكد يخنقه .. وسمع حركة فأرهف سمعه .. وحاول بجدع الأنف أن يسمع حوافر الدواب وهى مقبلة من بعيد .. وكان نظره الثاقب لايستقر فى مكان .. ورأى الحسك والشوك والعشب البرى ينمو فى مواضع متفرقة .. وبقايا الجذور السوداء قائمة هناك فى التربة القاحلة .
     وأصبحت البرية أشد وحشة ورهبة فى الليل .
     ورأى سوادا يتحرك .. فلما تبينه بوضوح لم يجده شيئا .. وكان قد أبعد عن الطريق المألوف وعن المزارع .. ولكنه كان يسمع نباح الكلاب يتأتى اليه من بعيد .. وكان الغسق يدمى .. والريح ساكنة سكون الموت .
     وفيما هو متجه نحو الشرق اقترب من شجرة صغيرة من أشجار السنط .. النابتة بفضل الطبيعة فى تلك البقعة الجرداء فتوقف بجوارها يأخذ أنفاسه ثم جلس وأشعل لنفسه سيجارة .. بعد أن أراح البندقية أمامه وتفرس فى الظلام وومض شىء فى السماء كالشهب .. ثم عادت الظلمة أشد مما كانت ، وأخذ وهو جالس القرفصاء يعبث بأصابعه فى الأرض الرملية فلمس شيئا مدفونا فى الرمال وأزاح بيده التراب .. حتى غابت أنامله فى شعر غزير ، وأدرك أنه شعر إنسان ، فارتعش بدنه .. وظل جامدا بلا حراك .. وعيناه تحدقان فى رعب .. فقد فوجىء بشىء لم يكن يتوقع وجوده أصلا فى هذا المكان .
     ولما عادت إليه نفسه انحنى وأزاح التراب سريعا .. فقد تصور الجسم المدفون لايزال حيا .
     ورأى فى عتمة الليل وجه فتاة من أهل القرية مشهورة بجمالها الفتان .. فتاة لاكتها الألسنة أخيرا وبلغ خبر السوء أهلها .. وهاهم قد واروها مع الخبر فى التراب .
     اقترب عبد الرحمن من وجه " نجية " يتأملها فى سكون الموت .. كانت الفتاة لاتزال محتفظة بنضارتها وكأنها مازالت تتنفس .. كان وجهها لايزال على جماله .. ولم يأخذ منه الموت بعد .. وأحس عبد الرحمن برجفة وذعر .. ان القتل رهيب .. والروح التى انطلقت فى عليين منذ لحظات .. هى التى ترعشه الآن .. انتابته رعدة لم يحس بمثلها فى حياته .
     كان احساسه بأن بجواره فتاة قد قتلت منذ ساعة قد شل حواسه وأرعش بدنه وهو الريفى الجسور .. وكم من مرة خرج فى الليل .. وجاب الطرقات .. ولكنه الآن يموت من الذعر .. ومعه السلاح .. وكم من مرة نزل إلى القبور ووسد بيديه هاتين الموتى من الفلاحين .. ولم يشعر بغير الحزن الذى يحس به الانسان نحو الموتى .. ولكنه يرتجف الساعة لأن بجواره قتيلا والقتل رهيب وبشع .. ولقد لمس رهبته وبشاعته .. ان الروح ليست رخيصة بالحد الذى يتصوره السفاحون .
     وعاد يتأمل وجه " نجية " .. كانت نائمة نوما لاحلم فيه .. وخدها على كفيها .. وشعرها الغزير الأسود كليل يدخل فى ليل ..
     وبدت له فى الواقع أجمل من كل من رأى من النساء ومع أنها ماتت مخنوقة .. ولكنها ظلت جميلة .. ولم يستطع الموت أن يمحو نضارتها .. وحدق فى وجهها ورأى آثار الأصابع فى عنقها .. وخطا أزرق فى مكان الكردان الذى كان عليها .
     ونفض عن ثوبها الأزرق الرمال العالقة به .. وغطى وجهه بملحفته .. ثم استقبل القبلة وصلى عليها ركعتين ..
     وعاد فحفر لها حفرة بعيدا عن مواطىء الأقدام .. وسـواها فيها ..
     ووقف وقد غلبه الحزن ينفض عن ثوبه التراب ويفكر فى الذى فعل هذه الجريمة من أهل الفتاة .. قد يكون عمها عبد الصبور .. وقد يكون خالها هشام أو أخوها خليفة ، ان الجهالة تركبهم جميعا فى مثل هذه الحالة وطباعهم طباع السفاحين .. وحار فيمن فعل ..
     وأحس بالأسى على عقل الانسان عندما يتلوث .. ويتحكم فيه الشيطان .. واعتصر قلبه آلام على المصير الذى لاقته الفتاة المسكينة وفكر فى أنها مظلومة .. وأنها رميت بالسوء دون بينة .. وأن الجهالة تعمى البصيرة وتغلق كل مسالك العقل وتدفع إلى الجنون .
                                ***    
     وكان حادث الفتاة قد أنساه ابنه حسان فرجع يفكر فيه .. وفى سبب تأخره إلى هذه الساعة ثم خطر له أن يطلق طلقة فى الهواء فإن كان ابنه قريبا من المكان وسمع صوت الطلقة سيرد عليها بمثلها .
     ورفع البندقية .. وأطلق طلقة وجاء الرد سريعا من طلقة مكبوتة لم يهتز لها الجو ..
     ولكنه سمعها بوضوح بسبب ركود الهواء .. وشعر بالفرحـــة .. وتحرك فى اتجاه المكان الذى خرجت منه الطلقة .
     وكانت النجوم قد أخذت تلتمع فى السماء وبدت الظلمة فى البرية أخف مما كانت من قبل .
     وتطلع الرجل إلى التل .. ورأى عن بعد خطا أسود يتحرك فى الظلام فى بطء وسكون .. وأحس بأنه قطيعه .. وانحرف إلى التل ليكون أسرع فى الوصول إليه ، وتعثرت قدماه وهى تمضى على عجل فى رجل ملقى على سفح التل .. فاستدار إليه وهو يحسبه نائما أو أصيب بضربة شمس .. ولما حركه وجده خليفة أخا الفتاة المقتولة .
     وقد أصيب برصاصة فى صدره والدم مازال ينزف منه .. ورأى يده قابضة على شىء .. الكردان الذى انتزعه من عنق الفتاة منذ ساعة ولعله كان يحمله إلى أهله كدليل على تنفيذ جريمته . 
     وعجب عبد الرحمن للضربة التى جاءت سريعا دون أن يحسب لها حسابا .. ولم يكن يدرى أرصاصته هو أم رصاصة ابنه هى التى قتلت الرجل ولكنها على كلتا الحالتين كانت ضربة من القدر فى صدر الجريمة وجاءت سريعا قبل أن يجف الدم المهدور .
     وحفر عبد الرحمن حفرة للرجل وسواه فيها كما سوى من قبل الفتاة .
     وأطلت فى هذه اللحظة رءوس القطيع من فوق التل !!

















==================================== 
نشرت القصة فى صحيفة المساء بالعدد 1425 بتاريخ 16/9/1960 وأعيد نشرها فى كتاب " ليلة فى الطريق " سنة 1962
===================================== 



اللــؤلــؤ


هونج كونج ميناء حرة .. وفى سوقها كل ما ينتج فى العالم .. والساعات والجواهر واللؤلؤ هى أشهر الأشياء التى تباع فى الحوانيت .. هذا ما عرفته من الدليل ..
وعندما سرت فى حى شستر رود فى قلب المدينة مستعرضا الحوانيت .. كنت أفكر فى شراء عقد من اللؤلؤ .. أهديه لوالدتى .. عندما أعود إلى القاهرة فتفرح به .. فى مرضها .. وأكفر به عن كل سيئاتى لها .. طوال هذه السنين .. وأرد لها بعض ما كنت أغتصبه منها من نقود .. لأنطلق وراء الشيطان ..
وعندما تموت سأسترد العقد .. وأبقيه للظروف .. فهو كنز وفى استطاعتى إذا بعته أن أكسب منه مئات الجنيهات ..
وعندما دخلت محل يونج أكبر تجار الجواهر فى هونج كونج .. رأيت اللآلئ لأول مرة فى حياتى .. ولمستها بأصابعى العارية .. كنت أراها من قبل عن بعد على صدور النساء الأنيقات فى حفلات الأوبرا .. أو أراها مصورة فى الصحف .. أما الآن فقد لمستها ..
وضعت البائعة عقد اللؤلؤ على صدرها وزهت به .. وعرفت منها اللآلئ المصنوعة واللآلئ الطبيعية .. ولم أستطع لا بالنظرة المجردة ولا حتى بالمجهر أن أميز أى فرق ..
واشتريت عقدا صغيرا من اللؤلؤ الطبيعى ودفعت فيه تسعة آلاف دولار ..
وفرحت به .. ووضعته فى حقيبة صغيرة .. وأغلقت عليه الدولاب فى الفندق .. كشئ عزيز المنال ..
وكنت دائما أفكر فيه .. وجعلنى التفكير .. أدخل محلا آخر فى حى المتاجر الشهير فى شارع دىفو .. لأعرف السعر .. فقد تصورت أن الرجل اشتط علىّ فى الثمن ..
ولما عرض علىّ التاجر الثانى بعض ما عنده من لآلئ جعلنى .. أشك فى كل شىء .. فقد فهمت منه .. أن هناك لؤلؤا يزرع فى أعماق البحار .. كما تزرع أشجار المانجو والتفاح فى الأرض ويظل فى أعماق البحار من ثمانى إلى عشر سنوات .. وهذا اللؤلؤ المزروع لا فرق بينه وبين اللؤلؤ الطبيعى على الإطلاق .. وخرجت من عنده وأنا ألعن القدر الذى جعلنى أفكر فى شراء شىء ليس لدىّ أدنى خبرة فيه ..
ثم شغلت بجمال المدينة .. ومافيها من بهجة ولم أعد أفكر فى الأمر كما كنت أفكر فيه من قبل ..
وكنت أقيم فى فندق السهم الذهبى .. بشبه جزيرة « كولون » .. ولكننى كنت أذهب فى بكرة الصباح إلى هونج كونج .. وأشاهد هذه المدينة الراقدة على سفح التل وهى تبدأ الحياة .. وبعد أن أعبر الخليج وأخرج من الميناء .. أشترى جريدة جنوب الصين .. من بائعة هناك على الرصيف .. وكانت كما بدت لى أرملة .. فى الخامسة والثلاثين من عمرها .. ترتدى رداء صينيا .. من قطعتين .. وكان يجلس بجوارها غلام فى الخامسة عشرة من عمره يمسح الأحذية .. وكنت أمسح عنده حذائى كل صباح .. وأعطيه نصف دولار فى كل مرة .. فيسر به كثيرا ..
وكنت أقلب فى الجريدة فى الفترة التى أمسح فيها الحذاء ثم أتركها للمرأة وأنا ماش بعد أن أكون قد نقدتها الثمن .. فكانت تسر جدا من هذا العمل .. وتحاول فى كل يومين أو ثلاثة أن تعطينى مجلة التايم .. أو مجلة لوك فى مقابل الجريدة التى أردها إليها .. ولكننى كنت أرفض ..
وكان الغلام عندما يشعر أننى فى حاجة إلى تاكسى ..يقفز أربع قفزات فى الهواء إلى الموقف ويأتى بواحد منها فى لمح الطرف .. وكنت أعجب لهذه السرعة الخاطفة ..
وبعد أن أتجول فى المدينة كنت أستريح فى مشرب على الطريق أستعرض من وراء الستر المسدلة العابرين فى الطريق .. وكانت النساء بجيوبهن المشقوقة .. ومشيتهن اللينة هن أكثر الأشياء استلفاتا للأنظار ..
وكانت المدينة بعد الساعة التاسعة والنصف .. وبعد أن تفتح جميع الحوانيت والمتاجر والبنوك تصبح كخلية النحل ..
ولم أكن أنتقى مكانا معينا .. كنت أجلس كما اتفق فى أى مكان أستطيع أن أشاهد منه متعة أكثر ووجوها اكثر إشراقا ونضارة ..
ولكنى كنت أتغدى فى مكان معين فى « كولون » ولقد اخترته لأنه مطعم صغير هادىء .. ولأنه كان يقدم أجود الأطعمة.. بأرخص الأسعار .. ولأننى كنت أرى فيه مجتمعا من النساء والرجال من كل الأجناس ندر أن أراهم فى مكان آخر .. كان كأنه مطعم دولى .. وكان يأتى إليه كثير من الأوربيات والأمريكيات العاملات فى هونج كونج .. وفوق هذا فقد كانت مديرة المطعم حسناء ..
وكنت أختار مائدة قريبة منها .. لأمتع نظرى بجمالها .. وكنت أذهب لأتغدى فى الساعة الواحدة تماما .. وأمكث هناك من الواحدة .. إلى الثالثة بعد الظهر .. أشرب القهوة .. وأطالع الصحف وأتطلع إلى الوجوه .. وكنت أحاول فى الفترة التى يخلو فيها المطعم من الآكلين ويخف الرواد ويتحول إلى قاعة للشاى .. أن أنفرد بالحديث مع المديرة الحسناء .. ولكنها كانت تصدنى بجفاء لا يوصف .. ولقد جعلنى هذا الجفاء أتعلق بها أكثر .. وأكثر ..
وكانت تجيد الإنجليزية .. ومع أنها صينية وولدت فى هونج كونج ولكن ملامحها لم تكن صينية خالصة .. وكنت أقدر أن والدها أجنبى قطعا .. وإذا لم تكن أمها تزوجت بإنجليزى .. فقد أتت بها عن طريق غير شرعى ..
وكان شعرها أسود غزيرا .. وشفتاها غليظتين ..حمراوين .. حمرة قانية .. كانتا تلمعان أبدا .. كأنما سقيتا الشهد منذ لحظات ..
وكانت فتحة عينيها آسرة وفى تقاطيع جسمها وبشرتها .. كل النعومة والفتنة والبياض الذى تتيه به أجمل النساء وكانت إقامتى الطويلة فى المطعم تجعلنى أذهب .. إلى دورة المياه .. لأغسل وجهى قبل أن تنقطع المياه من
« كولون » فقد كانت . تنقطع ساعات معينة من النهار .. ولأنى كنت استأنف تجوالى فى المدينة ولا أذهب إلى الفندق وكنت وأنا هابط إلى دورة المياه .. وكانت فى الدور الأسفل .. ألتقى بعمال المطبخ ..
وكان هناك رجل صينى فىالثلاثين من عمره .. كئيب السحنة .. لم يكن وجهه ترتاح له العين ..
وكنت أرى هذا الرجل يصعد إلى الدور العلوى بعد أن تغير المفارش التىعلى الموائد ويجلس بجوار مس تشن .. يشرب الشاى ويتحدث مدة طويلة .. ثم يعود ويهبط كما كان ..
وكان وجهه مدورا وعيناه منفوختين وفى خده الأيمن آثار جروح .. كان كأنه ضرب بمشرط حاد .. فى أكثر من موضع .. ومع أنه كان واحدا من الذين يجيدون التحدث بالإنجليزية فى المحل .. ولكننى كنت لا أسأله عن شىء ..
وكان هذا المطعم الصغير يوجد على غراره كثير من المطاعم فى حى الجولدن جات ، ويوجد هناك كثير من الفتيات الجميلات يخدمن ويبعن الشيكولاتة .. والسجائر للزبائن .. ولكننى فتنت بمس تشن من أول نظرة .. وكانت قدماى تقودنى إلى مطعمها دون أن أشعر .. كنت كالمأخوذ فى الواقع ..
وفى خلال الأسبوع الأول أدركت أنها سيطرت على مشاعرى تماما ..
وكانت تجلس صامتة على البنك قليلة الكلام .. قليلة الحركة .. فى دلال طبيعى .. وكان هذا الدلال .. يسحرنى ..
وكنت أسمعها تحادث الإنجليزيات اللواتى يأتين إلى المطعم ليأكلن ويشربن الشاى بلغة رشيقة .. وتبدأ ابتسامتها الحلوة فى هذه اللحظة ..
وكنت كلما تقدمت لمحادثتها أشعر بعينيها تقولان لى :
ــ لا تضيع وقتى .. بحديث ملفوف ، أنا أعرف غرضك ..
وكنت أتعذب .. وأعود إلى المائدة وأنا أغلى من الغيظ ولكننى كنت أكتم عواطفى .. وفى كل يوم يمر أزداد تعلقا بها .. ولم أكن أنقطع عن الذهاب إلى المطعم أبدا .. وكان الغداء ينتهى عادة فى الساعة الثانية بعد الظهر ويخف الرواد ولكننى كنت أبقى .. أكتب بعض الرسائل أو أتلهى بعمل أى شىء .. وعيناى لا تتركانها أبدا ..
وفى حوالى الساعة الثالثة .. كانت تتحرك من وراء الطاولة .. بعد أن تجمع النقود فى حقيبتها .. وتنزل إلى الدور الأرضى ..
وفى تلك اللحظة كنت أشاهد ساقيها واستدارة فخذيها .. وكل تقاسيم جسمها فى الرداء الضيق ..
ولم تكن ترتدى الرداء الصينى المشقوق الجيوب أبدا .. ثم تخرج من الطابق الأرضى وهى فى أبدع زينة وتحيى الخدم وتنصرف ..
وتبعتها مرة فلاحظت أنها تسكن فى بيت قريب من المطعم ..
وكان فى مدخل البيت دكان صغير فدخلته أتفرج على بعض القداحات حتى تصعد هى .. وعندما بصرت بى وأنا أتبعها ظلت نظراتها جامدة ..
ولقد حاولت بشتى الوسائل .. وبكل مالدى من تجارب أن أذيب هذا الجمود .. ولكننى لم أوفق أبدا .. كانت تنظر إلى دائما .. كشىء لا ترتاح عيناها إلى طلعته .. ولقد جعلتنى أنظر إلى وجهى فى المرآة أكثر من مرة لاحاول أن أعرف ما ينفرها منى .. وأدركت أخيرا أنه ربما يكون الندب الحاد الذى فى الجبهة .. أو العينين الضيقتين .. كعين الصينيين أنفسهم فهى مع كونها صينية ولكنها لا تحب من يشبه بنى جنسها ..
وذهبت إليها مرة ومعى ورقة بخمسة آلاف دولار .. لأفكها ..
فقالت بصوت ساكن :
ــ ليس لدى فكة .. انظر ..
وقلبت الدرج وأرتنى أكثر من عشرين ورقة كبيرة .. وهى تغمزبعينيها استخفافا .. فقد تصورت أننى أريها الورقة .. لأدلل لها على ثرائى ..
ولقد زادنى هذا غيظا .. لتفاهة تفكيرها .. وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى كتمت غيظى ..
وذات مرة رأيتها تضع عقدا من اللؤلؤ على صدرها فى حجم العقد الذى اشتريته .. فسألتها :
ــ ألك خبرة باللآلئ .؟ لقد اشتريت عقدا .. مثل هذا وأخشى أن يكون مصنوعا ..
ــ هل هو معك ؟
ــ لا .. إنه فى الفندق ..
ــ هاته غدا لنراه ..
وفى اليوم التالى .. أحضرت العقد .. ونظرت إليه طويلا بإعجاب .. وقالت :
ــ أظنه طبيعيا .. لؤلؤ خالص ..
ــ وكيف ميزته ..؟
ــ إنه ثقيل .. وفصوصه .. غير منتظمة .. به العيوب التى توجد فى اللؤلؤ الطبيعى ..
وسرت كثيرا .. وسألتنى :
ــ لمن اشتريته ..؟
ــ لوالدتى ..
ــ كنت أظنه لعشيقتك ..
ــ ليس لى عشيقات ..
ــ أبدا ؟..
ــ أبدا ....
ــ مظهرك يدل على أن لك عشيقة فى كل ميناء ..
ــ كالبحارة ..
ــ تماما ..
ومددت يدى بالعقد .. إليها .. وفوجئت بالعرض وقالت برقة :
ــ أشكرك ..
ــ لماذا .؟ تفضلى .. يمكننى أن أشترى غيره ..
ــ ليس له مكان فى صدرى .. إن صدرى مشغول ..كما ترى ..
وطويت العقد فى جيبى وأنا مسرور بهذه النتيجة .. رغم رفضها العقد.. وبعد ساعة نزلت إلى الطابق الأرضى .. فوجدتها هناك أمام المرآة تتزين ..
وكانت قد خلعت كل عذارها .. وبدا صدرها كله عاريا وهى تمشط شعرها .. ورأتنى وأنا أنظر إليها بقوة .. ولكنها تجاهلت نظراتى .. واستمرت فى زينتها كأنها لا ترانى ..
ولما خرجت من الباب الخارجى حيتنى لأول مرة بهزة من رأسها ..
وفى اليوم التالى .. بقيت فى المطعم حتى وقت تناول الشاى فى الساعة الخامسة .. وعرضت عليها نزهة فى أى مكان تختاره ..
فسألت :
ــ أين .. ؟
ــ نذهب إلى هونج كونج .. ونتعشى فى المطعم الفرنسى ..
ــ أشكرك .. إنك ترى أنى مشغولة جدا .. ليس لدى وقت ..
ــ ولكن أرجو أن تصحبينى فى جولة ولو قصيرة ..
ــ دعنى أفكر فى الأمر إلى الغد ..
وفى الغد قبلت أن تذهب إلى السينما فى هونج كونج ..
وعندما صعدنا من الباخرة .. وجدت المرأة الصينية التى تبيع مجلة مصورة وكان بجوارها الغلام .. ولكننى لم أستطع مسح الحذاء ومعى مس تشن .. فأعطيت الولد دولارا وفرح به كثيرا ..
وكان الفيلم أمريكيا وآفا جاردنر تهز المشاعر .. فأمسكت بيد مس تشن ولكنها سحبت يدها من يدى بسرعة وقالت هامسة :
ــ أرجوك إننا فى هونج كونج .. ولسنا فى لندن أو باريس ..
فتركت يدها .. وجلست صامتا حتى أضيئت الأنوار ..
وأصبحنا نتقابل كثيرا فى الفترة التى تستريح فيها فى الظهر .. فنذهب فى أى جولة نهارية ..
وحدث فى يوم من أيام الأربعاء .. وكنت قد ذهبت من الصباح أشاهد حى الصيادين فى ابردين .. أن عدت إلى المطعم بعد الساعة الرابعة .. فلم أجدها على البنك .. فتصورتها ذهبت إلى بيتها لتستريح .. ولكننى لما نزلت إلى الدور الأرضى .. أغسل وجهى سمعت همسا .. ثم رأيتها فى المطبخ تعانق ذلك الرجل الصينى القبيح الوجه وتأكل شفتيه وقد غفلت عن كل شىء حولها .. وأسرعت صاعدا حتى لا ترانى .. ثم تناولت زجاجة صغيرة من البيرة وخرجت مسرعا من المطعم .. قبل أن تصعد هى ..
وفى اليوم التالى ذهبت عندها لأتغدى .. فتركت البنك وجاءت إلى مائدتى .. على غير عادتها ..
وسألتنى فى دلال :
ــ لم نرك .. أمس .. يا سيد جعفر .. ؟
ــ كنت فى آبردين ..
ــ بصحبة بعض الفتيات طبعا ..
ــ كنت وحدى ..
ــ هذا غير معقول ..
ــ لماذا تتصورين دائما .. أنى كازانوفا ..
ــ لأنى أعرف الرجل من عينيه ..
ــ دعك من هذا الكلام .. لماذا لا تذهبين معى الليلة إلى مرقص فى هونج كونج .. ؟
ــ غدا يمكن أن أذهب معك إلى مكان أجمل من المرقص ..
ــ أين ؟
ــ سنصعد الهضبة معا .. ونركب الترام الجبلى .. ونرى المدينة الحالمة .. فى الليل ..
ثم رأتنى أخرج العقد اللؤلؤى من جيبى الخارجى .. وأضعه فى الجيب الداخلى فسألتنى ..
ــ لماذا تحمله معك .. هل لازلت تشك فيه وتود أن تعرضه على بعض الخبراء .. ؟
فضحكت ..
ــ أبدا .. يحدث كثيرا أن أنسى الدولاب .. فى غرفتى مفتوحا والأحسن أن أحمله معى دائما كما أحمل كل نقودى ..
ــ هذا أحسن .. فقط حاذر من النشالين ..
وتركتها .. وأنا فى غاية السرور ..
والتقينا فى مساء اليوم التالى بعد أن أغلق المطعم أبوابه ..
وعبرنا الخليج .. وكانت الباخرة تصفر وقالت لى هامسة .. ونحن نصعد سلم الميناء الخشبى :
ــ احترس من النشالين .. لأنهم يكثرون فى الموانى ..
فشددت على يدها شاكرا عواطف قلبها .. ورأيت فى مفترق الطرق .. الغلام ماسح الأحذية هناك .. على الرصيف .. وبجواره أمه .. فأعطيته دولارين .. وأدركت المرأة الصينية وغلامها سعادتى فى تلك اللحظة وتبعانى ببصرهما .. وأنا أركب تاكسى مع مس تشن .. إلى محطة .. الترام الجبلى ..
وبعد ثلاث محطات نزلنا ومشينا بين الأشجار .. وأعطتنى هناك شفتيها فى الظلام أكثر من مرة .. وذقت لذة الشهد الخالص من كل مرارة ..
ثم استدرنا مع الطريق الهابط بين الأشجار .. وهناك بصرت شبح الطاهى القبيح الوجه الذى يعمل فى مطعمها ..
ولما اقتربت من الشبح اختفى ثم استبعدت وجوده فى هذه االمنطقة وأبعدته عن ذهنى بعد عشر خطوات .. وقلت لمس تشن وأنا نشوان ..
ــ لماذا لا نقضى الليل معا .. ؟
ــ أوه هذا .. ولكن أين .. ؟
ــ فى الفندق ..
ــ سنذهب إلى مكان أكثر أمانا فى هونج كونج لأنى لا أستطيع أن أقضى الليل معك فى كولون ..
وكدت أطير من السعادة ..
ونزلنا من الهضبة .. ودخلنا فى شارع صغير قليل الضوء .. وكنت بجوارها صامتا حالما بالمتعة التى لا يحصل على مثلها انسان ثم تقدمتنى لترينى الطريق ..
وفجأة حدث شىء كالصاعقة .. رأيت حبلا .. يلتف على عنقى .. ويجذبنى من الخلف .. فسقطت على الأرض وسمعت وأنا أسقط صرخة .. حادة ..
ولم أكن أنا الذى أصرخ .. كان الذى يصرخ شخص غيرى .
وأحسست بالحبل يفلت من عنقى .. ويدا تمسك بى فتنهضنى .. ولما تبينته بعد أن رجعت إلى أنفاسى ألفيته الغلام ما سح الأحذية .. وكان قد  شد عنق الرجل الكئيب إلى جذع شجرة .
وكانت مس تشن قد ابتلعها الظلام .. وعربة مغلقة تقبل مصفرة وتلحس بأنوارها القوية أرض الشارع المرصوف ..
وكانت هذه العربة هى الشىء الوحيد الذى يدل على الحياة .. فى هذه المنطقة وكان عقد اللؤلؤ قد سقط من جيبى .. وتناثرت حباته على الأرض ..
فنظرت إليه فى غير اكتراث .. لم يكن يعنينى ان يكون زائفا أو طبيعيا الآن .. فقد لمست اللؤلؤ الحقيقى .. فى الإنسان ..







================================ 
نشرت فى مجلة الجيل 8/9/1958  وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================



نور فى المحطة


     كان صابر عبد الموجود وهو شاب فى الثلاثين من عمره من بلدة " صدفا " يشتغل بوابا فى شركة من شركات الدخان بمدينة الجيزة واستغنت الشركة عنه .. بعد أن كثرت حوادث السرقة فى المكان الذى يخفره .. لغفلته وبلادته .. وبحث عن عمل آخر فلم يوفق ولما طالت مدة تعطله وضاقت به سبل العيش .. جمع له بلدياته أجرة السكة الحديد ليرحل هو وزوجته إلى موطنه الأصلى .. وكانت زوجته من بلدة أبو النمرس بالجيزة وكانت عروسا طويلة العود .. جميلة التقاطيع .. سافرة .. وعلى خدها الأيمن حسنة .. وفى عينيها كحل طبيعى .. وفى عنقها عقد كبير أصفر من تراب الكهرمان .. تلبسه الحسان فى تلك المنطقة ..
     وكانت طيعة وأكثر طيبة من زوجها .. فلما تعطل صبرت شهرا وشهورا .. ولما قال لها أخيرا بأنه سيرحل إلى بلده .. ليعمل هناك .. فرحت .. ولم تفقد الأمل ..
     وكان صابر متوسط الطول .. سمينا .. مدور الوجه .. قليل الكلام .. وفيه بساطة فطرية .. ولما التقى بها وتقدم إليها لم ترفضه .. لأنه يطعمها ويكسوها .. ويغنيها عن الخدمة فى بيوت الناس ويعصمها من الزلل ..
     ومع أن صابر لم يذهب إلى الصعيد منذ ثمانى سنوات .. لكنه لم ينس قطاراتها .. واختار لسفره قطار الليل .. ليصل إلى بلدته فى الصباح ..
     وحمل قفة وضع فيها ملابسه القديمة وبعض الأشياء التى كانت فى مسكنه وربطة صغيرة فيها ملابس العروس وجلبابا جديدا له .. ليلبسه بعد أن ينزل من القطار ..
     وعندما دخل مع زكية محطة الجيزة .. اتجهت إليها الأنظار .. فقد كانت أجمل حسناء وقعت عليها العين ..
     ودخل القطار المحطة كما تدخل الزوبعة .. يثير حوله عاصفة من الغبار .. وفى غمرة الراكبين والنازلين ارتبك صابر .. وجرى على الرصيف بعكس القطار ثم ارتد .. ولم يستطع أن يميز عربة الدرجة الثالثة من الثانية .. وأخيرا انحشر هو وزوجته فى عربة قذرة ليس فيها موضع قدم .. وجلسا فى مدخل العربة مما يلى الباب مباشرة .. وكانت ريح الشتاء باردة تلسع .. والدخان يتطاير .. والغبار يدمى الوجوه ..
     وكان يخيل إليه وهو جالس وتحته قعقعة العجلات .. أن العربة الجالس فيها قد انفصلت عن القطار .. وأن العجلات انفصلت عن العربة فجرت هذه من غير عجلات ..
     وكانت الأرض التى تحته سوداء مغبرة .. وكان القطار يطوى أعمدة التلغراف .. وأعمدة التليفون .. وأشجار الجميز .. على الترعة ..
     ويطوى القرى المظلمة الموحشة المخيم عليها النخيل .. ويطوى المدن .. الصغيرة المضيئة القريبة من شريط السكة الحديد .. يطوى كل شىء بسرعة مذهلة .. ويمضى كما تمضى الحياة ..
     وترك القطار .. حدود بنى سويف .. ومغاغة .. وبنى مزار .. ومطاى .. وسمالوط .. وقبل أن يصل إلى المنيا ظهر الكمسارى .. وهو يشق طريقه بصعوبة بين أكداس الركاب .. وأحمالهم ..
     ووضع صابر يده فى جيبه .. فلم يجد التذكرتين .. فكأنما لسعته عقرب ..
     ـ معك التذاكر .. يا زكية ..
     ـ أبد معك أنت ..
     ـ لا أدرى .. أين وضعتهم ..
     ـ كيف ..؟ أبحث فى جيوبك ..
     ووقف الكمسارى ينظر إليه فى صبر .. وقد اعتاد هذه الحركة من هؤلاء الناس البسطاء .. فبعضهم يضع التذكرة فى لبدته .. وبعضهم يضعها فى مركوبه .. وبعضهم يضعها فى القفة .. ويظل يبحث ويبحث .. فيتركه الكمسارى ثم يعود إليه .. فيجدة قد عثر عليها .. وبعضهم يركب من غير تذكرة .. ويوهم الكمسارى أنها فقدت منه .. ولكن صابر لم يكن من هؤلاء .. فبمجرد أن نظر الكمسارى إلى وجهه .. أدرك أنه صادق .. فتركه ربع ساعة .. ثم عاد إليه ..
     ـ وجدت التذكرة ..؟
     ـ أبدا .. يا أفندى ..
     ـ ورايح .. إلى أين ..؟
     ـ نازل فى محطة صدفا ..
     ـ هات .. اثنين جنيه ..
     ـ ليس معى .. مليم .. أنا مروح بلدى .. عاطل ..
لى خمسة شهور من غير شغل .. من أين آتى بالفلوس .. أنا قطعت التذاكر .. قدام عبد الحافظ رشوان .. وعثمان خليل .. وزيدان .. والولد زكريا .. هاتوهم .. واسألوهم ..
     ـ لازم هذا القطر .. يجمع كل البهايم اللى فى الدنيا .. مرة واحدة .. يا بهيم أين التذكرة ..
     ـ ضاعت ..
     ـ وتذكرة الست ..
     ـ ضاعت .. أيضا ..
     ـ طيب .. ضعت أنت وهيه .. هات الفلوس أحسن من المحضر والبهدلة ..
     ـ ليس معى مليم ..
     ونظر الركاب إليهم .. وعيونهم مركزة على الكمسارى والرجل المسكين .. وكانوا يودون الكلام .. ولكن أى شخص يرتدى الملابس الرسمية .. حتى ولو كان فراش القطار .. كان يخيفهم .. ونظروا إلى صابر الذى يلبس الجلباب .. ولم يصدق واحد منهم .. أنه قطع التذكرة فعلا .. وضاعت منه .. واعتقدوا جميعا أنه يكذب .. وأنه كان يود أن يزوغ فى زحمة القطار .. ويزوغ من الكمسارى كما يفعل غيره ..
     وكان منهم من يود أن يسبه .. لولا وجود " الحرمة " بجواره ..
     وكانت زكية منكسة رأسها وشاعرة بالخجل ..
     ونظر الكمسارى إليها .. أخذ بعض الركاب يتحدثون .. عن مثل هذه الحالات ..
     وقال راكب لصابر :
     ـ يا أخى .. كنت قول لى .. كنت عملت لك حجابا .. أو جعلتك تقرأ سورة الناس ثلاث مرات .. كان الكمسارى يمر عليه ولا يراك .. أو يأتى لغاية الكرسى الذى بجوارك .. ويقف .. لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى ..
     وقال راكب آخر :
     ـ قول يابركة الست .. يابركة الست .. وتعدى ..
     ودخل القطار محطة المنيا .. وتحرك منها .. ثم مرت نصف ساعة .. والقطار ينطلق كالسهم فى جوف الليل .. وأخذ بعض الركاب ينعسون .. وكانت وجوههم النحاسية يسقط عليها ضوء العربة الشاحب .. وكان يوجد من بينهم من هو ذاهب إلى أقصى الصعيد فتكوموا على قففهم وعفشهم .. وكنت تسمع بكاء الأطفال من حين إلى حين وغطيت النائمين ..
وخيل إلى صابر أن الأمر قد انتهى بالنسبة له .. وأن الكمسارى اقتنع بكلامه ولذلك عادت إليه نفسه وأغمض عينيه .. ليغفى فى هدوء .. بعد أن نامت زوجته .. وفتحهما على شىء هناك فى أقصى العربة .. كان ثلاثة من الرجال يتحركون ببطء ويتجهون إليه .. وكان أحدهم طويلا .. ويرتدى معطفا أبيض .. وكان يدق على ظهر الكراسى بشىء صلب فى يده .. ولما اقترب رأى صابر وجه الرجل بوضوح .. كان جامد الملامح أقنى الأنف .. وكان صوته أكثر خشونة منه ..
كان لايترك مكانا إلا بعد أن يفحصه بدقة .. متناهية .. ويقلب فى العفش ويوقظ النائمين حتى الأطفال ..
ـ هذا عليه .. نصف تذكرة .. اقطع .. يا خليل أفندى .. نصف تذكرة والغرامة ..
وفتح صابر فمه .. أن العذاب الأكبر .. يقترب منه .. كان المفتش يتحرك ببطء .. لا يترك كرسيا .. ولم يكن يقبل أى مناقشة .. كان يصدر الأمر فيطاع فى الحال ..
وبحث صابر عن الكمسارى .. فوجده فى الخلف .. واقفا منكمشا فى جانب الأفنديين الآخرين .. وأخذ قلب صابر يدق بعنف .. وريقه يجف ووجد صعوبة فى أن يواصل أنفاسه .. وكانت حركة القطار وهزاته تزيده رهبة ..
وكان يود أن ينطلق .. فى العربة المجاورة ولكن الممر كان مكدسا بالعفش .. فلا يستطيع إنسان أن يتحرك .. إلا بعد أن يخوض فى الأجسام ..
وحول وجهه وأغلق عينيه .. وسمع لفظة ..
ـ تذاكر ..
فى الكرسى الملاصق له مباشرة .. فأغمض عينيه ..
ـ أنت يا بنى آدم .. تذاكر ..
ـ ضاعت منى ..
ـ وراكب من أين ..؟
ـ من محطة مصر ..
ـ وإلى أين ..؟
ـ رايح صدفا ..
ـ خده .. من مصر إلى صدفا .. مطوق .. طلع الفلوس ..
ـ ليس معى مليم واحد ..
ـ نزله .. فى المحطة القادمة .. وسلمه للناظر .. يعمل له محضر .. ويسلمه للبوليس ..
ـ أن معه واحدة ست ..
ـ سلمها للعسكرى .. يوصلها للناظر .. فى المحطة القادمة ..
وفتح صابر فمه .. واتسعت عيناه .. وأحس بطنين فى أذنيه .. لم يعد يدرك شيئا وفى المحطة القادمة أنزلوه مع زوجته .. 
وسحبها العسكرى على الرصيف ..
وكانت المحطة صغيرة .. وكئيبه .. وضوؤها خافتا .. ولا يبدو أن فيها أحدا على الإطلاق .. وتركهما العسكرى لحظات .. ثم دخل كشكا خشبيا صغيرا وخرج مع خفير المحطة ..
***
وكان الخفير .. عبد البديع .. قد ألف مثل هذه الحوادث .. ألف الركاب الذين يركبون من غير تذكرة .. ولا يكون معهم نقود .. فيرحلون مع الحرس .. ولكنه لم يكن يتوقع أبد أن يجد رجلا مع زوجته ..
فنظر إليها وتأسف ..وكان تعب السفر قد أضناها .. ولكن وجهها ظل مضيئا كالنهار .. وبعد دقائق قليلة .. كان الناس النائمين من الموظفين فى المحطة قد استيقظوا .. وخرجوا ليشاهدوا الحسناء التى نزلت من قطار الليل .. وكانوا يمرون عليها وهى جالسة .. ويحملقون فى وجهها .. ومنهم من اكتفى بالنظر من بعيد .. ولكنه ظل .. يسدد نظره إليها ولا يتحول عنها .. وشاعت الحركة فى المحطة النائمة .. وبدا النشاط فيها .. وكان كل واحد يتعلل بشىء ليرى الحسناء عن قرب ..
*** 
وجلس صابر صامتا كئيبا .. لايفهم شيئا من معنى النظرات التى تلتهم زوجته ..
وأدخلوه على معاون المحطة ليعمل له محضر ..
*** 
فأخذ المعاون يوجه إليه الأسئلة ..
 وكانت زوجته واقفة بجواره صامته .. وقد أذلها الموقف ..
ونظر إليها المعاون أكثر من مرة .. فرأى جمالا نادر المثال .. وأحس بضربات قلبه ..
وكان أعزب .. ويعيش فى هذه المحطة الموحشة منذ سنتين .. لايرى فيها وجه أنثى ضاحكة أبدا .. فلما جاءت هذه اهتز قلبه .. وانتفض جسمه كله ..
وطوى المعاون الأوراق التى أمامه وتنهد .. وقال وهو يشير إلى صابر وزوجته ..
ـ من الذى سيوصلها إلى نقطة البوليس ..؟
ـ الخفير .. عبد الرسول ..
ـ خليهم مستريحين إلى الصبح .. وفى الصبح يروحوا النقطة .. ولا داعى للإزعاج فى الليل ..
وخرج صابر مع زوجته .. من مكتب المعاون .. يرافقهما الخفير عبد البديع وجلست الزوجة فى مكان بعيد عن البرد .. ومر عليها بعد قليل المعاون .. وسألها :
ـ بردانة ..؟
ـ شوية ..
ـ معايا .. قميصين .. تيجى تغسليهم .. وأعطيك أجرتك .. ونتعشى وأنت لازم جعانة ..
وصمتت .. كانت تعرف المقصود بغسل القمصان فى بيوت العزاب ..
ـ يعنى سكتى ..؟
ـ ليس عندى صحة .. للغسيل ..
ـ صحتك .. عال .. كلها .. ساعة .. وبعد ذلك يمكن نشوف طريقة .. فى المحضر .. ولا داعى للنقطة .. إيه رأيك ..؟
ـ ليس عندى صحة .. للغسيل ..
ـ روحى .. يا بت .. كلها ساعة زمن .. والبيه سيحفظ المحضر .. ويمنع عنك البهدلة .. روحى ..
قال هذا الفراش .. ونظرت إليه صامتة .. وكان قلبها .. يتمزق .. وكان الفقر والذل يصرخان فى أعماقها ..
ورضيت أخيرا أن تذهب .. إلى بيت المعاون .. وأمر المعاون الخفير عبد البديع بأن يرافق زكية إلى بيته ..
*** 
وقبل أن تنهض زكية من مكانها .. لمح الخفير عبد البديع قطار الركاب قادما من بعيد فى طريقه إلى الصعيد .. فأشار لصابر وزوجته بأن يبتعدا عن الشريط ..
ولمع فى ذهنه خاطر سريع .. ظل فى جذب وشد معه لحظات ثم استقر رأيه على أن ينفذه سريعا ..
ولما دخل القطار وهو يصفر .. شغل به جميع من فى المحطة ..
وقبل أن يتحرك .. كان عبد البديع قد أدخل فى عربة من عرباته صابر .. وزوجته ..
وانطلق بهما القطار ..
*** 
ووقف عبد البديع وحده على الرصيف .. وقد أحس بسعادة لا توصف .. ورآه المعاون .. واقفا وحده ..
فسأله :
ـ أين الأنفار ..؟
ـ هربوا .. منى .. يا أفندى .. ركبوا القطار .. وهربوا ..
ـ هربوا .. يا بهيم .. يا مغفل .. كيف هربوا ..
ستحاكم .. ستقدم للمجلس العسكرى .. تعال ..
وكان المعاون يغلى غيظا .. والخفير يمشى وراءه .. فى هدوء تام وقد أحس بالأنوار .. تملأ الفضاء وتغمر الكون .. ولم يمح شبح المحاكمة السعادة التى كان يحس بها فى قلبه ..
ــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى المجموعة القصصية بعنوان " ليلة فى الطريق " سنة 1962

 

التـنيـن


     
       استيقظ رشاد قبل شروق الشمس .. على صوت العصافير وهى تغرد فى حديقة الفندق ..
     ولما نهض من الفراش ونظر من النافذة وجد البحيرة أمامه ساكنة ..
     ورأى شابة صينية فى سترة مضمومة وبنطلون أزرق قد أخذت تكنس الطريق الساحلى .. وتجمع أوراق الشجر المتساقطة .. وكان هناك ثلاث سيارات كبيرة .. واقفة فى مدخل الفندق .. والعصافير تطير من فنن إلى فنن .. وهى تسقسق معبرة عن فرحتها بشروق الشمس ..
     وظهر الشبان والشابات راكبين الدراجات فى الطريق .. وسقطت خيوط الشمس على سقوف البيوت الخزفية .. وفروع الأشجار العالية .. وسرت الحرارة فى مدينة هانتشو .. وأخذت تستيقظ من رقادها .. فبدت الحركة فى البيوت والشوارع ..
     وأخذت الزوارق الصغيرة التى فى البحيرة تتحرك .. وظهرت فتاة تقود زورقا منها إلى الشاطىء .. وكانت واضعة على رأسها قبعة عريضة من الخوص .. وبدا شعرها الأسود الطويل وراء ظهرها وهى تحرك المجداف .. كأنها حورية من جنيات البحر .. ورآها رشاد تبتسم فى ندى الصباح عندما صافحت قلبها حرارة الشمس .. فأخذ يرقبها لحظات .. ثم انثنى عن النافذة ودخل الحمام .. فاغتسل وارتدى بدلته .. وكانت قد بقيت نصف ساعة على ميعاد الإفطار .. فخرج إلى شرفة الفندق الكبير المطلة على البحيرة .. وجلس يتمتع بالمناظر الساحرة التى حوله وأخرج سيجارة وأشعلها .. وهفا إلى سمعه صوت النـزلاء فى الغرف المجاورة .. وأخذ بعضهم يخرج إلى الشرفة مثله .. وكان الجو منعشا .. والصباح خاليا من الطل .. ولاحظ أن باب الشرفة ليس به زجاج كما كان يتصور وإنما هو سلك رفيع محبوك .. كالنسيج .. وأدرك أن الشتاء غير قاس .. وأن الثلج لايثلج المدينة ..
     وشعر بالوحدة .. ومرارتها على نفسه .. فتململ فى كرسيه .. ثم نهض .. واعتمد بيديه على سياج الشرفة الحديدية .. وكانت الزوارق كلها قد أخذت تتهادى فى عرض البحيرة .. وسمع صوتا ناعما خلفه .. فتلفت فلم يجد صاحبته وأدرك أنها فى داخل الغرفة المجاورة .. وتحرك بضع خطوات ليقترب من باب الشرفة ولكنه عندما اقتـرب جدا .. ورأى الفراش واللحاف الحريرى المطوى .. خجل من نفســه وتراجــع .. إلى مكانه سريعا .. وأشعل سيجارة أخرى ..
     وكانت الساعة قد أخذت تدق الثامنة .. فمشى إلى قاعة الطعام .. ورأى النـزلاء جالسين إلى الموائد .. فى حلقة مستديرة .. ورأى فيهم بعض الروسيين .. والألمان الذين التقى بهم من قبل فى مدينة بكين ..
     وجلس إلى طرف مائدة صغيرة وحده .. وطلب من الخادم عصيدة ساخنة وسمكا مشويا .. وفنجانا من الشاى ..
     وقدمـت له الفتــاة العصيدة مع زجاجة من عصير الليمون ..
     وكانت الفتاة جميلة المحيا نظيفة الثوب .. وساءه أنها لاتعرف غير اللغة الصينية ، فقد كان يود أن يتحدث مع أى إنسان ..
     وبعد أن شرب الشاى .. نزل إلى الدور الأول فى الفندق .. واتصل تليفونيا بالمصحة ..
     ثم ركب السيارة إلى هناك ..
     وبلغ المصحة فى الساعة العاشرة .. وصعد إلى الطابق الثانى .. ودخل على زوجته .. وكانت سعاد فى الفراش .. ووجهها إلى النافذة .. ولما أحست به استقبلته صامتة ..
     وأخذها بين ذراعيه ..
     ـ ما أجملك اليوم ..
     فلم تفتح فمها ورأى فى عينيها الدمع المتحيـر .. فتأثر ولكنه كتم عواطفه ..
      وسألته بعد مدة ..
     ـ اتصلت بالسفارة ..؟
     ـ أجل .. وسأبقى هنا إلى يوم الخميس ..
     ـ وتتركنى وحدى .. فى هذه المدينة ..؟
     ـ لست بالصغيرة يا سعاد .. ولسنا فى نـزهة أو أجازة صيف .. وبعد اسبوعين ستشفين تماما .. وسأجىء لآخذك ..
     ـ لماذا لم تأخذ إجازة أخرى من المعهد ..؟
     ـ لقد أخذت إجازات كثيرة هذا العام .. وكانوا مثال الشهامة .. والمروءة .. وأحب أن أكون حساسا .. ولا أثقل عليهم بالطلبات .. وقد قبلوا علاجك فى هذه المصحة بربع الأجر .. وفى هذا الكفاية ..
     ـ الحمد لله .. كنا نحمل هم هذه المصاريف .. لقد سببت لك الارتباك المالى والتعب النفسى .. يا رشاد ..
     ـ لاتقولى هذا الكلام .. المهم هو أن ترجعى إلى صحتك ..
     كيف حال الصداع ؟
     ـ زال والحمد لله ..
     ـ والنوم ..؟
     ـ أنام الآن طول الليل ..
     ـ حسن .. النـوم هو أهم شىء .. لأنه سيعيد اليك أعصابك ..
     ودخل الدكتور لى .. الغرفة وخلفه ممرضة .. فحيا بأدب .. ونظر إلى سعاد .. وإلى رشاد مبتسما .. وسأل سعاد بالإنجليزية ..
     ـ هل ينقصك شىء .. هل هناك شكوى ..؟
     ـ أشكرك .. إن العناية بى فوق زيادة المستزيد .
     وظل الطبيب يحادثها لحظات .. ويحث سعاد على أن تخرج إلى الحديقة وتتجول فى قاعات المصحة .. حتى لاتشعر بالسأم والملال .. ثم خرج ..
     وقال رشاد لسعاد بعد أن خرج الطبيب ..
     ـ لماذا لاتخرجين إلى الشرفة .. الجو دافىء ..
     ـ إنى خارجة .. من جلسة كهرباء ..
     ـ وتعبانه ..؟
     ـ تخدير بسيط يجلب النعاس .. ولكنى سأبقى صاحية .. من أجلك ..
     ـ إن الرقة هى أجمل صفاتك .. وقد زادت الرقة صفاء فى الصين .
     ـ صحيح .. ولهذا تود أن تبقى ثلاثة سنوات أخرى ..
     ـ بالطبع ..
     ودخلت عليها الممرضة تحمل بعض الدواء .. وكانت فى ثوب أزرق جميل .. ووجهها أكثر نضارة من ثوبها .. وكانت الرقة والجمال فى كل حركاتها ..
     وقالت سعاد لزوجها :
     ـ جميلة ..
     ـ تقصدين لطيفة ..
     ـ جميلة .. قلها ولاتخف ..
     وضحك ..
     وبعد الظهر خرج بها إلى الشرفة ..
    وكانت المصحة على ربوة عالية .. تحيط بها مناظر طبيعية خلابة .. وكانت التلال حولها مكسوة بالسندس .. والأشجار العالية تزيد من روعة المكان .. والبحيرة على مسافة قريبة .. والهدوء شاملا .. والسكون عميقا .. فلاتحس حركة .. ولا تسمع شيئا يثير الأعصاب ..
     وكانت سعاد قد استرخت فى الشمس .. وراحت فى سبات .. ونظر اليها رشاد وهى نائمة فى وداعة كالطفل .. وأدركه الأسى لحالها ..
                            ***    
     وكانا قد قدما إلى مدينة البحيرات منذ شهر لينعما بأجازة قصيرة فى فترة الأعياد فى الصين ..
     وكانت وحدها فى غرفة الفندق عندما حمل اليها الخادم برقية من بكين فيها نعى والدها .. سقطت به الطائرة وهو عائد إلى القاهرة .. من بيروت ..
      ولم تقو أعصابها على تحمل الصدمة .. وسقطت بالبرقية على الأرض ..
     ولما أفاقت كان لسانها قد أصابه الشلل .. وذاكرتها قد ذهبت عنها .. ولم تعد تعرف شيئا .. فنقلوها إلى هذه المصحة ..
      وكان رشاد قد قضى شهرا كاملا فى عذاب لايوصف .. وتلفت أعصابه .. وكان يخشى .. أن تموت وينقلها فى صنــدوق إلى الطائرة .. كان مجرد تصور المنظر يفطر فؤاده ..
     ونال منه الحزن .. ثم فكر فى رحمة الله .. ورآها تتحسن .. ورأى المرضى فى المصحة .. أحسن حالا منه .. فشعر بالأمل الكبير يعاوده .. ونفى عن ذهنه فكرة الموت ..
                                 ***   
     ولما فتحت سعاد عينيها وهى جالسة فى الشرفة صحبها إلى غرفتها وظل معها حتى تغدت واستراحت ثم تركها .. وعاد إلى المدينة ..
     وكان من عادته أن يتجول فى المدينة .. ثم يركب الأتوبيس إلى الفندق وبعد العشاء يجلس فى البهو .. يطالع الصحف والمجلات .. أو يكتب رسائل إلى أهله فى القاهرة .. أو إلى مقر عمله فى بكين ..
     وبعد الساعة التاسعة .. ينام إذا أحس بالنوم .. أو يظل ساهرا يطالع .. حتى يشعر بالنعاس ..
     وذات ليلة ذهب إلى المسرح .. وعاد بعد نصف الليل .. وصعد درجات الفندق ومشى فى البهو الطويل .. وكانت الإضاءة فى البهو قد خفتت .. وخيم السكون ورأى وهو يقترب من باب غرفته .. سيدة واقفة على الباب الذى بجواره تعالج الأكرة فاستعصت عليها وأخذت تتلفت حائرة .. باحثة عن الخادم لينقذها ..
     فتقدم إليها .. وكانت هذه الحالة قد اعترضته عندما جاء إلى الفندق أول ليلة وعرف من الخادم كيف يدير الأكرة .. وأدار الأكرة .. وفتح الباب .. وعلمها الطريقة فابتسمت وانحنت له شاكرة ودخلت .. وردت الباب وراءها ..
      ودخل غرفته وأشعل النور .. واستراح قليلا .. على الكرسى الطويل ذى المساند الحريرية ثم فتح باب الشرفة .. وخرج إلى الشرفة .. وفى يده سيجارة .. ووجد السيدة التى فتح لها الباب منذ لحظات هناك .. فى الشرفة وفى يدها سيجارة مثله .. ولما أحست به دخلت سريعا إلى غرفتها ..
     وبقى فى مكانه .. وهو يشعر بشعور غامض .. لم يتبين منه أسر من وجود انثى معه فى جناح واحد أو استاء .. ولكنه بقى فى مكانه أكثر من ساعة على أمل أن تخرج مرة أخرى إلى الشرفة ولكنها لم تخرج ..
                                ***     
     وفى الصباح عاد إلى زوجته فى المصحة ووجدها شاردة وتكاد لاتعرفه .. فخرج حزينا .. ومشى على غير وجهة فى المدينة ..
     وفى الليل ذهب إلى السينما .. ولما عاد إلى الفندق كان الجو ممتعا فخرج إلى الشرفة .. ووجد جارته فيها ..
      وقال معتذرا بالإنجليزية وقد شعر بالارتبـاك ..
     ـ فى هذا الصف .. شرفة واحدة لكل غرفتين ..
     ـ نعم لاحظت هذا ..
     ـ هل يضايقك وجودى .. ؟
     ـ لماذا بالعكس لقد وجدت من أحادثه ..
     ـ أعجبتك هانتشو ..
     ـ رائعة .. إنها فوق كل تصورات الخيال ..
     ـ إنها مدينة مشهورة بجمال المناظر الطبيعية ..
     ـ سمعت عنها كثيرا وأنا فى برلين .. ومن سنة 1948 وأنا أرغب فى زيارة الصين ، لقد تحقق الحلم بعد عشر سنوات ..
     ـ هذا رائع .. ويدل على المثابرة ..
     وقالت ببساطة :
     ـ كان لابد لى أن أقتصد المبلغ الذى يساعدنى على الرحلة ..
     ونظر اليها فى سكون .. كان كما قدر فى الثانية والثلاثين .. من عمرها .. أنيقة طويلة العود ..
     وكانت معتمدة على سياج الشرفة الحديدى .. وعيناها إلى البحيــرة والدخان الأزرق .. يعلو عن جبينها فى خيوط ..
      وقالت :
     ـ ما أجمل البحيرة ؟
     ـ إنها توحى بالشعر وهنـاك شاعر صينى عاش فى وسط البحيرة حتى مات .. وكل من يجىء إلى هنا يهبط عليه الوحى .. ويصبح شاعرا ..
     ـ حتى أنت ..
     ـ حتى أنا ..
     ـ ولكننا .. لسنا الآن فى عصر الشعراء .. اننا فى عصر القنابل الصاروخية ..
     ـ ولكن هذا .. لايغنى عن الشعر .. والأحلام .. إن الحقائق المجردة تميت ..
     ـ هذا صحيح .. وجميل أن أجد من أحادثه بالإنجليزية هنا .. انهم لايحبون الحديث بها ..
     ـ هل ستبقين هنا طويلا ..؟
     ـ ربما اسبوعا .. اننى أراسل صحيفة المانية .. وسأكتب كتـابا عن الصين ..
     ـ ورأيت شنغهاى ..
     ـ سأراها .. وأنت هل تعمل هنا ..
     ـ لا إننى أعمل فى بكين ..
     ـ تعيش فى الصين .. إذن ..
     ـ جئت منذ ثلاث سنوات ..
     ـ واستطبت الحياة فيها ..
     ـ إن برد بكين قارس .. ولكن أين هى مدينة الأحلام ..
     ـ يمكن أن توجد فى القمر .. عندما تغزو الفضاء ..
     ـ ربما .. يتحقق هذا الحلم .. لقد أطلق الروس اليوم قمرهم الصناعى الثانى ..
***
     ونظر اليها .. ربما تكون أصغر سنا من مظهرها .. فإنها لاتزال شابة .. رغم خيوط الشعر البيضاء .. ورغم الأسى على الشفة ..
     وسألت :
     ـ أخشى أن أكون قد حملتك على السهر .. أرجو المعذرة .. لقد انقضى نصف الليل ..
     وانحنت برقة وذهبت .. وشيعها ببصره حتى دخلت من الشرفة .. ومشى إلى غرفته ..
                                ***     
     وعندما اضطجع على السرير ..كان يفكر فيها .. فمنذ جاء إلى هانتشو وهو يقاس من مرارة الوحدة .. بعد مرض زوجته .. كان يرغب فى رفيقة تؤنسه .. ولم يصادف امرأة .. غير ما يشاهده فى المصحة من الطبيبات والممرضات ..
     وكان الفندق نفسه خاليا تقريبا من النـزلاء .. وإذا جاء فوج .. وفيه بعض النسوة .. الأجنبيات كان لايمكث أكثر من ليلة .. وفى الصبـاح يذهب .. ولهذا شعر بالارتياح لوجود هذه السيدة بجواره .. ووجد أنه التقى أخيرا بمن يؤنسه فى وحدته ويخفف عنه ألم ما يعانيه من مرض زوجته ..
     وفى الصباح بحث عنها فى غرفة الطعام فلم يجدها .. وعاد إلى غرفته لأنه نسى علبة السجاير .. وفى نفسه خاطر أن يلاقيها أو .. أو يسمع حسها .. ولكنه لم يرها .. فامتعض .. وأخذ طريقه إلى المصحة ..
     وكانت زوجتـه قد تحسنت .. عن الأمس فسر .. وبقى معها مدة طويلة ..
     وعاد إلى الفندق فى ميعاد الغداء .. وكان فى الواقع يحب أن يرى السيدة الألمانية فى غرفة الطعام .. ولكنه لم يجدها .. وخرج إلى المدينة .. وعاد قرب الغروب يتمشى على ساحل البحيرة .. فرآها من بعيد مقبلة فى ثوب وردى بسيط .. وكانت عارية الشعر ..وفى رجليها نعل خفيف .. فأقبلت وكأنها لما رأته أسرعت نحوه وتناول يدها .. ثم مشيا على الساحل ..
    وكان قد رأى شيئا عجيبا منذ يومين ورغب أن يريه لها .. فقادها إلى هناك واستقبلتهما فتاة صينية فى الرابعة عشرة من عمرها بابتسامة مشرقة ..
     وقال للفتاة باللغة الصينية ..
     ـ إن السيدة المانية .. وتحب أن ترى براعتك ..
     وسألت الفتاة :
    ـ ما اسم السيدة ؟
    فتلفت رشاد إلى السيدة الألمانية ..
     ـ انها تسأل عن اسمك ..
     ـ أوه .. كارولين ..
          ـ اسم جميل ..
           وضحكوا ثلاثتهم ..
      وجاءت الفتاة الصينية سريعا بحلة وضعتها على نضد .. وملأت الحلة بالماء حتى الحافة .. وأخذت تضع فيها أشــياء ثقيلة فلم يزد الماء ملليمترا واحدا ولم تسل منه قطرة ..
     ونظرت كارولين متعجبة ..
     ثم أخذت الفتاة تنقر على حافة الحلة بيديها نقرا بارعا .. وتخرج منها أرق الألحان والماء يعلو من الوسط ولا يسيل على الأرض .. وكانت كارولين ورشاد ينظران فى عجب ..
     وأخيرا سألت الفتاة الصينية رشاد ..
     ـ هل السيدة زوجتك ..؟
     ـ نعم ..
     ـ انها جميلة جدا ..
    وسألته كارولين ..
     ـ ماذا تقول لك ..؟
     ـ تقول أنك جميلة جدا ..
     وسرت كارولين وضحكت .. وأخرجت بعض النقود من جيبها للفتاة .. فرفضت هذه ..
     فقال رشاد ..
     ـ انها لاتقبل أى نقود ..
     ـ حقا .. ؟
     ـ حقا ..
     ـ ما أعجب الصينيين ..
     ومشيا إلى البحيرة .. ولما وجدا زورقا راسيا .. واقترح عليها نزهة قبلت مسرورة ..
     وكانت المرأة التى تقود الزورق شابة جميلة .. فحركت المجداف برقة ولما بعدا عن أسوار المدينة .. رأيا زورقا آخر يسير بجانبهما ويسبقهما .. وكان فيه شاب سائح وفتاة .. واغتاظت كارولين وقالت ضاحكة :
     ـ لابد أن نسبقه ..
     وأمسكت بالمجداف الصغير .. وأخذت تجدف .. وأمسك رشاد بمجداف آخر وجدفوا بحماسة .. وسبق زورقهم الزورق الآخر وصفقوا ..
     ولما أخذت كارولين تعود إلى مكانها .. اهتـز الزورق الصغير .. وكاد ينقلب وتسقط هى فى الماء فتلقاها رشاد على صدره وأجلسها برفق .. فاحمر وجهها من هذه الحركة .. كأنها بنت العشرين ..
     وخرجا من الزورق .. وجلسا فى الجزيرة الصغيرة .. وأحس بالجمال حوله .. ولما انطلقا بين الأشجار الملتفة .. تركت يدها فى يده .. وأحس بالسعادة ونسى زوجته .. ونسى مرضها .. وكان الحرمان الطويل قد هز أعصابه ..
     وسألها :
     ـ هل تقومين بهذه الرحلة وحدك ؟
     ـ أجل .. اننى وحيدة .. وأنت ..؟
     ـ وأنا كذلك .. وحيد ..
     ـ وتعيش وحدك فى بكين ..؟
     ـ أجل .. وأقيم فى فندق ..
     واصفر لونه وهو يكذب .. ولكنها لم تلاحظ هذا ..
     وقالت بأسى :
     ـ لقد فقدت والدى ووالدتى فى الحرب .. وأختى الكبرى .. ماتوا جميعا .. فى الهول والجحيم الذى مر بنا .. كالعاصفة .. وفى فترة الاحتلال فقدت ما بقى لى من كرامة ..
     ـ دعك من هذا الحديث الآن ..
     وضغط على يدها .. ورجعا إلى الزورق .. وخرجا منه توا إلى الفندق ..
     وقال لها برقة ..
     ـ سنتعشى .. ثم نذهب إلى المسرح ..
     فهزت رأسها .. موافقة ..
     وأكلا وشربا النبيذ الصينى .. ثم خرجا إلى المسرح .. وضحكا كثيرا .. وكانت الرواية ممتعة .. والاخراج رائعا .. ولما عادا إلى الفندق .. كان الليل قد انتصف ..
     وودعها على باب حجرتها .. ودخل إلى غرفته .. وعندما أصبح وحيدا مرة أخرى أحس بأنه محموم فخرج إلى الشرفة .. واعتمد على السياج .. ووقف فى الظلام .. أكثر من خمس دقائق وكأنه ينتظرها .. كان يتوقع خروجها اليه ..
     وقف دون أن يدخن .. وكان النبيذ الذى شربه على العشاء .. لايزال يشعل رأسه ..
     وسمع صوت أقدامها الخفيفة فأغلق عينيه ..
     وأخرج كرسيا إلى الشرفة دون أن ينظر إليها فقالت برقة :
     ـ سأظل واقفة .. أحس بصداع ..
     ـ هل أطلب لك فنجانا من القهوة ..؟
     ـ لاداعى لذلك .. لماذا نوقظ الخادمة فى هذه الساعة من الليل .. لقد نام الجميع ..
     ـ هناك من هو ساهر ..
     ـ سأشرب كأسا من الخمر انها تريح أعصابى ..
     وتلفت فى حيرة .. من أين يأتى لها بالخمر فى هذه الساعة من الليل ..  فابتسمت لحيرته وقالت برقة ..
     ـ عندى نصف زجاجة .. وأحب أن تشرب معى ..
     ـ سآخذ كأسا ..
     ودخل معها غرفتها ..
     وظلت تشرب .. وكلما شربت شرب .. ونظرت اليه وقالت :
     ـ سأكتب كتابا عن رحلتى إلى الصين .. وستكون فى أول صفحاته ..
     ـ ماذا تقولين عنى ..؟
     ـ سأقول بأننى التقيت بشاب عربى .. إنسان .. جميل الصفات أنسانى كل ما لقيته فى السفر الطويل من مشقة .. وأخرجنى من وحدتى المرة .. وجعلنى أعود صبية ..
     ـ أنت صبية .. وأجمل وأنضر من كل الصبايا اللواتى التقيت بهن فى حياتى ..
     ـ حقا ..؟
     وضحكت .. وتناول يدها وهى جالسة على الكرسى ونظر إلى عينيها .. كان فيهما زرقة خالصة .. وصفاء آسر .. وعجب للتقارب السريع الذى حدث بينهما كأنه التقى بها من زمن طويل .. لقد أحبها وافتتن بها .. رغم تفاوت السن .. إنها تكبره بسنوات وسنوات .. وعجب لأنه نسى معها زوجته ..
     وظلا أكثر من ساعة يتحدثان .. وكأنهما يتناجيان .. ثم نهض وقال :
     ـ إلى اللقاء فى الصباح .. سنخرج فى نزهة جبـلية .. وسأنقر على بابك ..
     فوقفت لتودعه .. وهى تنظر اليه .. نظرة صامتة .. ولكنها معبرة ..
     وعلى باب الشرفة رآها كأنها تفتح ذراعيها له فاقترب منها وضمها إلى صدره بقوة .. فراحت فى أحضانه .. تغمره بقبلاتها ..
     وأغلق باب شرفتها من الداخل ..
                               ***   
     وفى الصباح .. خرج رشاد من الفندق مبكرا .. ولم يمر على كارولين .. وذهب إلى المصحة .. فوجد زوجته فى أحسن حال .. وأحس أنها ليست فى حاجة إلى العلاج بالكهرباء أو بالشمع ..
     ورآها تطيل النظر اليه باسمة .. فاصفر لونه .. ثم تماسك وخجل من ارتباكه .. واضطراب أعصابه .. وسألها ..
     ـ انك اليوم فى أحسن حال يا سعاد ..
     ـ صحيح ..؟
     ـ أسألى مس تشن ..
     ـ لقد سهرنا أمس فى مسرح المصحة .. شاهدت مسرحية رائعة من تأليف وتمثيل المرضى ..
     ـ واشتركت فى التمثيل ..؟
     ـ المرة القادمة .. سأشترك ..
     ـ وما هو موضوع الرواية ..
     ـ فكرة بديعة .. رجل ترك زوجته فى فراش المرض .. وارتمى فى أحضان امرأة أخرى فنال الجزاء العادل ..
     ـ ماذا حدث له ..؟
     ـ أكله التنين ..
     ـ لابد أن تكون المؤلفة امرأة .. هذا هو خيالها ..
     وضحكت سعاد ..
     ـ ألا يعجبك ..؟
     ـ إن فيه قسوة بشعة ..
     ـ فى المرة القادمة .. سنعطى الرجل خاتم سليمان ..
     وتصور أنها تغمز بعينيها وهى تتحدث فاصفر لونه ..
     ـ مالك ..؟
     ـ تعبت من صعود التل ..
     ـ انك تصعد كل يوم .. ولم تشعر بالتعب ..
     ـ ولكننى تعبت اليوم .. لماذا تضحكين ..؟
     ـ فكرة الرواية أعجبتنى ..
     ـ هذا خيال مريض .. وأين هو التنين ..؟
     ـ فى كل الصين .. لماذا تأخذ المسألة جد ..
     ـ أبدا ..
     وضحك .. ثم عاد واصفر لونه .. وبقى مع سـعاد بعض الوقت ثم خرج .. مضطرب الفكر .. كان يحب زوجته حـب جنـون .. ولا يدرى لماذا ..
     وعندما رجع إلى الفندق .. وجد كارولين فى مائدة الطعام .. فجلس يتغدى معها على مائدة واحدة .. وجاءه الخادم أثناء الطعام وقال له بالإنجليزية ..
     ـ إن زوجته تطلبه فى التليفون من المصحة ..
     فنظرت إليه كارولين .. بعيون مفتوحة ..
     وامتقع لونه .. ونهض إلى التليفون .. ولما عـاد .. وجـدها تدخن بشراهة .. ويدها ترتعش .. وابتدرته قائلة ..
     ـ إذن أنت متـزوج ..؟
     وأجاب هامسا ..
     ـ أجل ..
     ـ وزوجتك هنا فى هانتشو .. ومريضة فى المصحة .. ولماذا كذبت علىّ .. لماذا لم تقل الحقيقة ..
     ـ كان لابد أن ..
     ـ كذبت لأكون لك سلوى .. ولتتخذ من جسمى متعة عابرة .. وزوجتك تموت هناك .. إنك حقير ..
     ـ أنت مخطئة ..
     ونهضت بانفعال ودخلت غرفتها وأغلقت عليها الباب ..
     وفى الصباح رآها رشاد خارجة من الفندق وركبت السيارة إلى المحطة .. وكان رشاد يود أن يلحق بها ويسمعها كلمة .. ولكنه سمر فى مكانه ..
     ولما ذهبت السيارة .. صعـد إلى غرفته .. وجلس معتمدا برأسه على يديه .. وهو يحس بأن شيئا ثقيلا قد حط على صدره وجذبه إلى الأرض ..
                                      ***    
     وقضى ليلة .. قلقة .. وفى الصباح ذهب إلى المصحة .. ليرى سعاد قبل عودته إلى بكين ..
     وودعها وركب القطار .. وفى بكين عاش فى عذاب لايوصف .. وقرر أن يعترف لسعاد بخيانته .. عندما يرجع إلى هانتشو ..
     ولكنه لما ذهب إلى هانتشو .. وقابل سعاد .. خشى أن يعترف لها فيقتلها لأنها كانت تحبه إلى درجة الجنون .. وتغار عليه من النسيم .. فكيف يقول لها أنه ضعف وارتمى فى أحضان امرأة ..
     وكتم لواعجه .. وعاد بزوجته إلى بيته فى بكين ..
                               ***   
     وكان يرى التنين أينما تحرك .. أنه شعار الصين .. على كل الدور والمبانى يقف التنين .. فاتحا فمه ..
     وفى بيته .. بل فى غرفة نومه .. تمثال من الفحم .. وعليه تنين هائل .. لقد أصبحت المسرحية حقيقة مميته .. وسيأكله التنين ..
     وكان يود أن يحطم التنين الذى فى غرفته .. أو يحدث زوجته لترفعه من هذا المكان ..
     ولكنه خشى أن تتذكر المسرحية .. وتقف على سره .. فتراجع ..
     ولاحظت زوجته شروده واضطراب أعصابه .. فتصورت أن مرضها أرهقه بالمصاريف وأثقله بالديون .. فحزنت لحاله .. وازداد تعلقها به وحبها له وتفانيها فى خدمته ..
     وكانت تستقبله بالابتسامة المشرقة والضحكة الناعمه ودلال الصبا .. ويقابلها بالجفاء .. والشرود ..
     وعاشا فى عذاب .. وأحس بالفجوة التى حدثت فى البيت وكادت تقوضة .. وتدمره ..
     وقرر أن يفاتحها فى الأمر بطريقة مخففة ليخفف عن نفسه العذاب .. فقد كانت هذه هى زلته الأولى منذ تزوجا .. ويريد أن يتطهر من رجسها ولكنه كلما هم بالكلام تردد فازداد قلقه وعذابه ..
     ومرت شهور وحل الشتاء وكان قارس البرد .. وأصيب رشاد .. بالتهاب رئوى حاد ..
     ولكنه ظل يعالج فى البيت .. وأخذ المرض معه كل أدواره ..
     وذات ليلة اشتد هذيانه وكانت زوجته ساهرة بجواره كعادتها ..
     وفى الصباح سألته برقة ..
     ـ من هى كاروليـن .. التى كنت تردد اسمها .. وأنت تهذى ..؟
     ـ كارولين .. ؟
     ـ آه ..
     ـ انها فتاة المانية بائسة .. التقيت بها منذ سنوات فى ميونخ .. قبل أن نتزوج .. وكانت جائعة .. فتعشينا وذهبنا إلى السينما ..
     ـ ولا زلت تذكرها بعد كل هذه السنين ..
     ـ ربما لأن حياتهــا كانت مأساة .. مات والداها فى الحرب ..
     ووضعت سعاد يدها على فم زوجها ..
     ـ أنسها ..
     وكانت تود أن تعانقه .. لولا أن دخلت خادمتها الصينية .. لتنظف الغرفة وأخذت تمسح على الأشياء والتماثيل وتنفضها بالمنفضة ..
     وصعدت على الكرسى لتمسح تمثـال الفحم الذى فوقه التنين .. كعادتها .. وبدت منها حركة فسقط التمثال وتناثرت أجزاؤه .. على أرض الغرفة .. وطار جزء من التنين وحط على صدغ رشاد .. كانت الضربة شديدة ولكنها ليست قاتلة .. وسال الدم غزيرا .. وغاب رشاد عن وعيه .. ولما استفاق شعر بالألم الحاد .. ولكنه فرح فى أعماقه لأنه نال جزاءه .. وذعرت الفتاة على السيد وعلى التمثال العزيز .. ولكن السيدة سكنت روعها ..
     وجرت سعاد تمسح جرح زوجها .. بيدها الرقيقة .. ونظر رشاد إلى التنين الذى تحطم وشعر بفرحة كبرى .. شعر بأن المعركة انتهت .. وأن التنين الذى كان يعيش فى رأسه قد اندثر ..
     وتناول يد زوجته .. وقبلها بحرارة ..
     وقال هامسا :
     ـ انها آخر مرة ..
     ولم تفهم سعاد شيئا .. ولكنها طوقته بذراعيها .. كأنها تحميه من كل ما يدور
فى الخارج .

نشرت القصة لأول مرة بصحيفة الشعب المصرية فى 20|3|1958 وأعيد نشرها بمجموعة ليلة فى الطريق  سنة 1962
=================================



العرجاء


     اجتزنا العاصفة بسلام فنزعت الحزام من وسطى .. وأحسست برغبتى فى النعاس .. فاسترخيت على الكرسى وأغلقت عينى .. ونمت ساعة كاملة شعرت بعدها براحة أعصابى .. وبالسكون أكثر من ذى قبل فقد نام الركاب وأصبح أزيز المحرك رتيبا ومألوفا لسمعى ..
     وكنا نتجه إلى هونج كونج فى ليلة من ليالى نوفمبر .. وليس بالطائرة الجبارة سوى عشرين راكبا من مختلف الأجناس والأعمار ..
     وكان جناح الطائرة تحت بصرى .. ولم أكن أشاهد فى الظلام إلا اللهب الذى يدور فى دوامة رهيبة هناك وكأنه يود أن يلتهم شيئا حيا .. أخذت أرقب السنة النار .. وشعرت فجأة بالخوف .. بالخوف الأخرس من الطائرة ومن الموت .. ومن المصير المظلم الذى سنتردى فيه لو تحطمت الطائرة أو احترقت ..
     وسمعت من ينتشلنى من هذه الخواطر المزعجة بقوله :
     ـ تسمح بأن أعدل لك الكرسى .. سنجىء بالعشاء ..
     واستدرت برأسى ووجدت المضيفة منحنية فوق كتفى .. وكانت فى ردائها الأزرق المألوف .. ولكن كانت جديدة .. لم أرها من قبل أبدا .. ولم تكن هى التى قدمت لنا قطع اللبان .. ونحن نحلق .. كانت أطول من المضيفة السابقة .. ووجهها أكثر نضارة .. وقلت لها :
     ـ أننى فى شدة الجوع ..
     وحركت الكرسى ومضت سريعة .. وعادت وفى يدها الحامل المعدنى .. الذى ستضع عليه صينية الطعام ..
     وجلست أمامى تثبته فى الكرسى .. كانت قريبة جدا منى .. وهى جالسة القرفصاء منفرجة الساقين .. ويدها تثبت فى براعة طرفى الحامل .. وعلى خدها يرف أحمرار متوهج ..! وكان شعرها يلمع تحت بصرى ووجهها الأبيض الصغير يتألق فى الضوء الخافت .. لم أر فتاة فى مثل جمالها فى هذه اللحظة .. وشعرت بانتفاضة هزت مشاعرى وأنا أرى شفتيها مضمومتين مكتنزتين فى حمرة العقيق ..
     وأخذت تروح وتجىء فى نشاط ورشاقة .. وتسألنى إن كنت فى حاجة إلى المزيد من الطعام .. أو إلى تفاحة أخرى ..
     وكنت أعرف أن الركاب جميعا قد تعشوا فى الفترة التى نمت فيها .. وأنها الآن تقوم على خدمتى وتشغل بى وحدى ..!
     وسألتها وهى تقدم لى القهوة :
     ـ هل أنت مسرورة .. هنا فوق السحاب ..؟
     ـ بالطبع لابد أن أكون مسرورة ..
     ـ ولا يضايقك شىء ..؟
     ـ أوه .. ما أكثر المضايقات ولكننى اعتدت عليها ..
     أ صينية ..؟
     ـ أجل .. ومن هونج كونج ..
     ـ أسمع الكثير عن هذه المدينة .. هل هى ساحرة حقا ..؟
     ـ أنك فى الطريق إليها .. وستحكم بنفسك ..
     ـ ولكننى أقصد طوكيو ..
     ـ حقا .. على أى حال سترى هونج كونج .. قبل أن تصعد إلى الطائرة الثانية ..
     وسألتنى :
     ـ أذاهب للسياحة أم إلى عمل هناك ..؟
     ـ أننى وكيل شركة سيارات .. بعد العدوان على السويس أصبحنا نستورد كل سياراتنا من طوكيو ..
     ـ أخمن .. أنك من القاهرة ..
     ـ أجل .. وأنا كثير الأسفار وآمل أن التقى بك فى رحلة أخرى ..
     ـ سترانى حتما ما دمت تركب الطائرات ..
     ـ تتوقعين هذا ..
     ـ بالطبع ..
     ـ هل هذا عملك على هذا الخط وحده ..؟
     ـ لا .. أحيانا نذهب إلى مانيلا .. وأحيانا نذهب إلى طوكيو .. وما أكثر الناس والمدن التى رأيتها ..
     ـ إن هذا ممتع ..
     ـ ليس بالقدر الذى تتصوره ..!
     ـ لماذا .. ؟ هل فى العمل متاعب ..؟
     ـ كثيرة .. ولولا أن هناك خيطا يشدنى إلى السماء .. لتركت العمل من أول جولة ..
     ـ أتخافين ..؟
     ـ أبدا .. إن راكب الطائرة ينسى المخاوف كلها بعد الجولة الثالثة أو الرابعة .. ولكنها طبيعة العمل نفسه .. أنظر إلى وجوه الركاب سترى كل الأشكال وكل الألوان وكل أجناس البشر .. ترى الحماقات كلها متجمعة .. ترى العجوز والقبيح الوجه والفظ .. والكريه الرائحة .. والسكير .. والعصبى .. ونصف المجنون .. الذى يتصور نفسه دنجوانا فى كل لحظة .. ترى الشاب الجميل والمهذب الطباع .. والذى يتدفق حنانا ورقة ..! وعملى يقتضى أن ألبى طلبات هؤلاء جميعا .. وابتسم دائما فى وجوههم وأتحمل مغازلاتهم وسماجتهم بابتسامة .. أحمل الابتسامة الأزلية على شفتى وأدور بها .. تصور هذا وإلا سأطرد من الشركة ..!
     وأدركت أنها رقيقة الطباع وشديدة الحساسية فقلت :
     ـ ومن منا المستريح فى عمله .. الحياة كلها متاعب ..
     ـ أشعر بأنى أكثر الناس تعبا ..
     ـ ولماذا لا تبحثين عن عمل آخر ..؟
     ـ وكيف أحصل عليه ..؟ وكيف أحصل على نفس الأجر .. انك لاتعرف الفقر وكيف يذل النفس البشرية ويسحقها سحقا .. اننى أضحى بكل شىء من أجل إنسان أحبه .. إنسان أود أن أجعله يعيش دائما فى رغد .. ولا يشعر بأن شيئا ينقصه ..!
     وقدرت أنها تحدثنى عن والدتها العجوز فى البيت أو والدها .. وفاضت عواطفها فرأيت أن أغير مجرى الحديث فسألتها :
     ـ متى نصل هونج كونج ..؟
     ـ فى الصباح ..
     ـ إذن سأحاول النوم مرة أخرى .. ولكن إذا هبت العاصفة أرجو أن توقظينى ..
     ـ أتخاف ..؟
     ـ لايمكن أن أشعر بالخوف .. وأنت معى ..
     وضحكت .. ودفعت الباب الصغير وغابت عن نظرى .. وأغلقت عينى ونمت واستيقظت مفزوعا على شخص يشدنى من شعرى .. حتى تصورت أنه خلع رأسى عن عنقى .. وصرخت وصحا الركاب .. وجاء مساعد الطيار ومعه ملاحان والمضيفات كلهن وخلصوا يد الرجل منى بعد مشقة .. وأعطوه منوما وأنزلوا له سريرا من سقف الطائرة ..
     وكان قد شرب الخمر قبل النوم وصحا مفزوعا على العاصفة والطائرة تلعب بها الريح .. وصور له الفزع أنه يهوى من شاهق ..! ووجدنى أمامه فماتت يده فى شعر رأسى وهو غير مدرك لما يفعل ..
     وجاءت المضيفة التى قدمت لى العشاء تبدى أسفها لما حدث .. وسحبتنى إلى الجزء الأمامى من الطائرة لأجلس وحدى وقدمت لى كأسا صغيرا من الخمر ليذهب عنى الروع .. وظلت طول الوقت ساهرة بجوارى تحادثنى وتروح عنى فى حنان طبيعى .. حتى اقتربنا من هونج كونج ..
     وخرجنا من المطار وظلت المضيفة مس لى شان بجانبى ورافقتنى إلى المدينة ولم نركب عربة الشركة وركبنا تاكسى معا .. وأثناء تجوالنا فى كولون قررت أن أرجىء السفر بضعة أيام لأستريح من ركوب الطائرات وأن أعطيها التذكرة لتغير ميعاد السفر إلى طوكيو ..
     واتجهنا إلى فندق جميل اختارته لى ..
***
     وسحرت لما رأيته فى المدينة .. ولكن بهجتى الحقيقية كانت فى سير مس شان بجانبى وهى تترجم لى اللغة الصينية على المتاجر والحوانيت .. تشرح لى آلاف الأشياء .. وكانت فى راحة من عملها لمدة ثلاثة أيام فتجولت معى وهى طليقة .. وزرنا شبه جزيرة كولون .. وعبرنا البوغاز إلى هونج كونج .. وركبنا الركشا ودخلنا المسرح .. والملاهى الصينية ..
     وفى اليوم التالى دعتنى لشرب الشاى فى بيتها ..
     وكان بيتها فى شارع منحدر متفرع من أوستن رود .. وكان الشارع يموج بأسراب الحسان الأجنبيات من الإنجليزيات والأمريكيات العائدات بما تسوقن من الحوانيت .. وفيه صفان من المتاجر الصينية المتأنقة .. وفى هذا الشارع الجميل عرجت بى إلى منزل حديث من ثلاثة طوابق .. وصعدت معها إلى شقتها الأنيقة وأخذت بروعة الأثاث وجمال كل الأشياء التى وقع عليها بصرى .. وكانت الستر الحريرية تغطى كل النوافذ .. ومضت خمس دقائق وأنا أتصور أنها تسكن وحدها .. ثم خرج الينا .. شىء من باب جانبى .. شىء لم أكن أتوقعه أصلا .. ولما فوجئت به هز مشاعرى .. حسناء .. عرجاء .. وكان عرجها كبيرا .. كانت ساقها اليمنى كلها صغيرة ومشوهة ..! وكانت تعتمد على اليسرى .. فى كل شىء .. وهى تسدد إلىَّ نظراتها القوية .. وذاب قلبى فى تيه من المشاعر الدافقة وأنا أرقب الأختين فى جو يعبق برائحة البنفسج .. وكانت العرجاء أكثر جمالا وأشد فتنة .. والطبيعة التى أخذت منها شيئا واحدا أعطتها أشياء كثيرة لا يدركها الحصر .. أعطتها وجها رائع القسمات .. وعينين فيهما كل السحر والبريق والصفاء الذى اجتمع لأنثى .. وأعطتها جسما ملفوفا لينا .. وبشرة كالعاج ..
     وكان من آداب المضيفة الجميلة .. مس شان ألا تتحدث أمامى مع أختها بالصينية ودار الحديث كله بالإنجليزية من أول دقيقة ..
     وقالت بدلال ونحن نشرب الشاى ..
     ـ السيد .. خليل .. مسافر إلى طوكيو يا تين .. وسيأتى لنا بسيارة .. وعقدين من اللؤلؤ الخالص ..
     وقالت تين لينج على الفور :
     ـ أوه ما أجمل هذا .. وهل تعرف اليابانية .. !
     وضحكت الأختان معا ..
     وجلسنا نتحدث .. وكانت الساعة قد تجاوزت السابعة .. فاقترحت عليها أن نذهب إلى ملهى صينى .. فأحمر وجه تين .. واعتذرت وقالت :
     ـ أذهب مع لى لأنها فى أجازتها القصيرة .. وستكون دليلك هذه الليلة ..
     وذهبت مع لى إلى الملهى ..
***  
وخرجنا من الملهى .. وتجولنا فى المدينة .. وأحسست بها أكثر قربا منى والتصاقا بى ونحن نسير تحت الأمطار الخفيفة .. فى الضوء الشاحب .. وفى الشوارع الضيقة ولعلى كنت أود أن أذوق طعم شفتيها .. ولكننى لم أفعل ..
     وفى صباح اليوم التالى التقينا .. وكنت أود أن أشترى آلة تصوير .. ودلتنى على محل كبير بشارع كوين رود بهونج كونج .. وتغدينا هناك .. ثم تجولنا إلى العصر .. ولما عبرنا الخليج وذهبنا إلى أختها تين .. وكانت الساعة قد جاوزت الرابعة مساء رأيت فى عينيها الملامة .. لأن مس لى نسيت نفسها مع الشاب الغريب ..
     ثم عادت إلى طبيعتها السمحة واستقبلتنى بدماثتها وترحابها ..وكنت مأخوذا بهذه الرقة وبوجهها المتألق وشعرها الأسود الذى يلمع فى أقل الأضواء ..
     وكان هناك شىء ينمو فى صمت بينى وبينها ولم أستطع ادراكه إلى هذه الساعة .. فعلى الرغم من مرح أختها .. وطواعيتها لي فإننى كنت أجد قلبى يتوق بكليته للعرجاء ..
     وفى اليوم الثالث رافقتنى مس لى شان كالعادة فى الصباح ورفضت تين أن تخرج معنا .. واشتريت علبة زينة فاخرة للى شان واشتريت مثلها لأختها العرجاء ..
     وسرت العرجاء كثيرا .. ورأيت عينيها تبرقان وتصبحان أكثر نعومة ..!
     وكان البرنامج فى الليل وهى آخر ليلة أقضيها بصحبة لى شان أن نصعد إلى الهضبة وأن نشاهد المدينة من شاهق وهى مرصعة بحبات الدر ..
     وانحدرنا عن الهضبة بالسيارة وهى ملتصقة بى .. وكانت يدها فى يدى .. وكنت أفكر فى أن أصحبها معى إلى الفندق .. لنقضى الليلة الأخيرة .. ولكن بعد أن نزلنا من السيارة وركبنا الباخرة وسرنا على شاطىء كولون سعيت معها إلى بيتها .. كالمأخوذ .. وفتحت لى شان الباب بخفة .. ولما دخلنا لم نسمع حسا .. وأدركت أن أختها العرجاء نامت .. وجلست فى الصالة وخلعت معطفها .. وبدت لى أكثر جمالا .. فلم أتمالك نفسى وطوقتها .. ورحت أقبل شعرها وجيدها وعينيها .. وكل ما يقع تحت شفتى .. وبحركة منها جذبتنى إلى غرفتها .. وأغلقنا الباب ..
     وفى الصباح ودعتها بالقبلات وقبل أن أخرج من الباب الخارجى .. كنت أود أن أدخل على العرجاء فى غرفتها .. كانت عندى رغبة محمومة ولكننى قاومتها وضغطت على أعصابى ..
*** 
     وكنت أعرف أن لى شان ذاهبة إلى عملها فى الصباح .. ومع ذلك فكرت فى أن أتجاهل هذا وأذهب إلى بيتها بعد الظهر .. قبل أن أركب طائرتى لأرى العرجاء مرة أخرى ..
     وبالرغبة المحمومة نفسها .. اتجهت إلى البيت فى الشارع المنحدر .. والمطر يغسل الشارع ورأيت أن أسير تحت المطر أكثر وأكثر لأجفف ثيابى عند العرجاء .. واستقبلتنى بابتسامة ولوعة وهى ترى المطر يبلل سترتى وخلعتها هى فى الحال لتجففها .. وصح كل ما توقعته .. من العناية بى ووضع يدها على صدرى لترى إن كان الماء قد وصل إلى القميص ..
     ولما سألتها عن لى شان .. قالت برقة :
     ـ سافرت فى الصباح .. إلى بانكوك .. ألم تقل لك ..؟
     ـ قالت أنها مسافرة .. ولكنها لم تحدد الوقت .. وكنت أتصور أنها مسافرة فى الغروب مثلى ..!
     ـ أمسافر اليوم إلى طوكيو ..؟
     ـ أجل فى الساعة الخامسة .. وسآتى لك باللآلىء وكل الأشياء النادرة التى أجدها هناك ..
     ـ وضغطت على لفظ اللؤلؤ لأرى وقعه فى نفسها .. ووجدتها تبتسم .. ولا أدرى هل ابتسمت لحماقة تفكيرى أو لسرور طبيعى .. ووضعت مائدة الشاى .. والسكر .. لم تنس السكر مع أنها لاتستعمله .. وأصبح وجودى فى بيتها بعد أن عرفت أن أختها سافرت مقرونا بالسترة التى تجف وكنت أود ألا تجف أبدا .. وأن أتخلف حتى عن ميعاد الطائرة .. فإن شيئا كان يجذبنى إليها بقوة المغناطيس وشده .. وتركتنى لفترة قصيرة .. وذهلت وأنا أرى السترة فى يدها مكوية .. ولا أدرى كيف جففتها ولكن كل شىء يتحرك فى هذه المدينة بسرعة الصاروخ ..!
     ونظرت إليها وهى تقترب منى .. بكل ما فيها من صبا ونضارة .. وعندما رفعت السترة بذراعيها إلى أعلى لتساعدنى على لبسها قمت بأول وآخر محاولة .. تركت السترة .. وطوقتها بذراعى ولمست سريعا خدها .. وكانت شفتاى تبحثان عن شفتيها .. ولكنها دفعتنى برقة ممزوجة بالغضب بيديها ..
     وقالت بانفعال ظاهر :
     ـ هل فعلت هذا مع لى شان ..؟
     وأشفقت على عرجها .. والشىء الذى يجعلها لا تستطيع أن تقاومنى بكل جسمها .. فتركتها .. وأنا أقول :
     ـ لم أفعل هذا ولا أقل منه مع لى شان ..
     ـ ولماذا تفعله معى إذن ..؟
     ـ لأنى أحبك ..
     ـ تحب عرجاء بهذه السرعة .. لا تسخر منى ..
     ـ إنى أتحدث بقلبى .. وفكرت فى الزواج بك من اللحظة التى رأيتك فيها ..
     ـ أوه .. ما أكثر الفتيات اللواتى ستتزوجهن فى هذه الرحلة ..؟
     ـ أننى أقول الحقيقة .. ألا تفكرين فى الزواج ..؟
     ـ ولماذا أفكر فيه .. إن لى شان تأتى بكل ما أحتاج إليه .. ونحن نعيش فى نعيم فلماذا أفكر فى شىء كهذا ..؟
     ـ ألا تفكرين .. فى مرضها .. وتعطلها عن العمل ..
     ـ أرجوك .. اسكت .. لاتقل هذا ولا تجعلنى أفكر فى هذه الأشياء ..
     وتحركت إلى الباب وفى قلبى لوعة ..
*** 
     وعدت من طوكيو بعد اسبوعين .. وفتحت لى العرجاء الباب .. وكان وجهها هادئا كعادته ولم أجد لى شان فى البيت .. وسررت لهذا .. وقدمت ما أحمله من لآلىء وتحف وكان من بينها كومينو لها وآخر لأختها ..
     وقلت لها :
     ـ هذا لك وهذا لأختك لى ..
     ـ وتناولت يدها وقبلت أناملها ونظرت إلى عينيها فوجدتها صامتة مستسلمة فأدركت فعل الهدية وأثرها فى نفسها .. وظللت معها إلى الليل .. ونحن نشرب الشاى وأحدثها بما شاهدته فى طوكيو وقبل أن أخرج اقتربت منها وطوقتها بذراعى وتركت نفسها لقبلاتى وخفت أن تدخل علينا أختها ونحن فى الصالة .. فحملتها إلى غرفتها فى الظلام ..
     وعندما أضأت نور الغرفة لأرتدى بدلتى .. لمحت نسخة من جريدة جنوب الصين بالإنجليزية وفى صدرها صورة لى شان بملابسها الزرقاء .. فتناولت الصحيفة وبسرعة قفز قلبى .. وسبحت الحروف السوداء الكبيرة .. وأظلمت عيناى .. وجدت خبر مصرعها .. مع ركاب الطائرة .. وكان التاريخ فى الجريدة يرجع إلى أسبوع مضى ..
     وكانت تين ترقبنى فى صمت وسكون وأنا أغالب عبراتى .. ولم يكن وجهها يعبر عن شىء أبدا ..
     ونظرت إلى الفراش الذى طوينا لحافه الحريرى الصينى منذ لحظة .. وأدركت مذلتها ومقدار تعاستى .. فلم تمنحنى نفسها عن حب أبدا .. وأنا بكل الجواهر والنقود والشيكات التى فى جيبى أكثر ضياعا منها ..
***
     وعندما أخرجت كل ما فى جيبى من دولارات وشيكات سياحية ووضعتها على النضد .. ظلت العرجاء صامتة ولا تحرك ساكنا .. وكنت أفكر وأنا أهبط السلم فى أنى لم أصنع المأساة فى هذه الحياة ولم أصنع الفقر .. فلماذا أتعذب ..






ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 422 بتاريخ 25/1/1960 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص بعنوان " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــــــ








قصة فتاة






     التقيت بثريا لأول مرة فى قسم الجراحة فى مستشفى التعاون .. وكانت ملازمة لقريبة لها أجريت لها عملية الزائدة الدودية ..
     وكانت ثريا سمراء لطيفة وجذابة وعيناها سوداوان وواسعتان جدا ..
     وكانت فى جلستها ملاصقة لسرير المريضة وتمسك بسلسلة ذهبية صغيرة بين أناملها الدقيقة .. وتحركها فى سهوم وهى غافلة عن وجودى .. فلما أحست بى وأدركت أنها عطلتنى عن عملى .. جفلت وتوهج خداها .. وعلاهما احمرار شديد ودفعت كرسيها إلى الوراء فى حركة سريعة .. لتفسح لى الطريق وهى تعتذر لى فى رقة كانت الشرارة لعواطفنا ..
     وحييتها برأسى .. وأنا أخفف عليها وقع المسألة .. وأخذت أفحص المريضة وأطمأنها .. ثم دونت شيئا فى اللوحة المعلقة على السرير .. وخرجت أتم جولة الصباح فى العنبر ..
     وفى غروب اليوم نفسه رأيت ثريا فى جولة المساء جالسة على نفس الكرسى وأصبحت بالواقع الملموس أجد روحا على النفس كلما دخلت هذه الغرفة .. لأنها كانت على خلاف الغرف التى فى المستشفى هادئة وقليلة الزوار .. ولم أكن أسمع فيها الضجيج الذى أسمعه فى الغرف المجاورة من الجناح عينه ..
     وبدا لى أن السيدة المريضة قليلة الأقارب .. أو أن أقاربها على مستوى عال من السلوك الإجتماعى .. وحتى الرجال القلائل الذين كانوا يزورونها لم أشاهد أحدا منهم يدخن فى الغرفة قط أو يتكلم بصوت مرتفع .. وكانت زيارتهم قصيرة ولا تضايق المريضة .. وكنت فى الواقع أميل إلى هذا الصنف من الناس وأعزه .. لأن لافتات المستشفى التى تنبه الزوار إلى عدم إقلاق راحة المرضى .. والتزام الهدوء لم يكن يحترمها أحد على الإطلاق ..
     وكانت ثريا أكثر قريبات السيدة المريضة .. حرصا على راحة المرضى الآخرين ولقد جذبتنى برقة عواطفها وحنانها من أول وهلة ..
     وكنت كلما دخلت الغرفة فى الصباح أو المساء أجدها تعمل شيئا من أجل المريضة .. كانت تعطيها الدواء .. أو تحرك لها ستر النافذة .. أو تضع تحت رأسها الوسادة ..
     وكنت استنشق نسمة معطرة قبل أن أجتاز العتبة .. وأحس احساسا غريبا بالنشوة ..
     وكنت ألاحظ أنه فى اللحظة التى أهم فيها بمغادرة الغرفة .. ترفع ثريا بصرها نحوى .. وتستوقفنى بنظراتها كأنها تود أن تسألنى عن شىء .. ثم أراها تستغنى عن السؤال فى اللحظة الأخيرة ..
     فأعجب لدماثة طباعها وشدة خجلها ..
***
     ورأيتها ذات مساء جالسة وحدها فى الشرفة .. وكانت المريضة نائمة فسألتها :
     ـ لماذا لاتتسلين بالقراءة ..؟
     ـ إنها تسبب لى الصداع ..
     ـ ألا تحبين المطالعة ..؟
     ـ أبدا ..
     ـ هذا أحسن فى الواقع .. لقد أرحت عينيك ..
     فضحكت .. وصحت السيدة المريضة .. وكانت حالتها قد تحسنت كثيرا والتأم الجرح ..
     فقلت لها :
     تستطيعين الخروج يوم الخميس .. إذا شئت ..
     ـ فى الصباح ..؟
     ـ أجل ..
     ـ شكرا .. يا دكتور لقد بذلت جهدا عظيما .. وكانت عنايتك فائقة ..
     وخرجت إلى الغرف الأخرى ..
     وكنت فى الواقع أفكر فى المريض الذى سيشغل هذه الغرفة .. وأحس احساسا غامضا بشحنة من العواطف المتضاربة .. وأكملت جولتى فى المستشفى ..
     ورأيت بعد ساعة .. وأنا خارج بسيارتى الصغيرة إلى الطريق .. ثريا واقفة على محطة الأوتوبيس وتمهلت فى سيرى وأنا أمر بجوارها ورأيتها تستوقفنى بعينيها وتذكرت خجلها ..فوقفت وسألتها :
     ـ عاوزه حاجة من " مصر " .. أجيبها لك .. أنا راجع بعد ساعة ..
     ـ لا .. مرسى .. أنا نازلة أشترى شوية حاجات لزينب هانم علشان حتخرج ..
     ـ طيب .. اتفضلى .. أركبى ..
     ـ لا مرسى .. ما أحبش أعطلك ..
     ولم ألح عليها .. بعد أن قرأت فى عينيها التردد ..
*** 
     كان عملى فى المستشفى مرهقا .. ويتعب الأعصاب .. وكنت أجد فى بعض الوجوه الصباح عوضا عن المشقة التى ألاقيها .. ولكنى لم أكن أخلط قط بين العمل وبين عواطف القلب ..
     ولقد رأيت ثريا فحركت مشاعرى فى مدة عشرة أيام مرت كالطيف العابر ..
     ولكن بعد أن غادرت قريبتها المستشفى ولم أعد أراها نسيتها تماما ..
     ومرت الأيام ..
*** 
     وفى أمسية من أمسيات الجمعة وكنا نودع الشتاء .. وقفت على شباك التذاكر باحدى دور السينما فى قلب القاهرة .. ورأيت ثريا واقفة بعيدا عن الصف ..
     وكانت ترتدى فستانا من قطعة واحدة ضيقا وملتصقا بجسدها .. وعلى كتفها شال طويل أبيض .. ويتدلى فى طيات طويلة ..
     وكان شعرها الأسود يتموج فى خصلات قصيرة جذابة .. وعيناها قد بدتا أشد سوادا ولمعانا مما رأيتهما من قبل ..
     وكانت تبتسم عندما شاهدتنى فى الطابور .. وبدا لى أن وجهها ملتهب بذكرى عذبة .. ولم يتراء لى جمال وجهها من قبل بهذا المقدار من الفتنة ..
     وأحسست بأنفاسها المعطرة وهى تقترب منى وتضع فى يدى ورقة بخمسة وعشرين قرشا وتقول بصوت عذب :
     ـ تسمح تقطع لى تذكرة ..؟
     وأبقيت الورقة فى يدى بعد أن رأيت عيون الجمهور تحدق فينا ..
     وعندما أصبحت أمام عاملة التذاكر مباشرة ترددت قليلا .. هل أحجز لها كرسيا فى صف .. وأحجز لنفسى فى صف آخر .. أم نجلس متجاورين .. وأخيرا حجزت تذكرتين متجاورين ..
     وفى داخل السينما أرجعت لها نقودها .. بعد إلحاح شديد من جانبى وأخذنا نتحدث وأسألها عن قريبتها زينب هانم بعد العملية .. وأخذت تحدثنى عن نفسها وكيف تحب السينما كثيرا لأنها تسليتها الوحيدة ..
     وعرفت منها أنها متزوجة .. وأن زوجها سافر إلى الخارج منذ 3 سنوات .. ليكمل دراسته .. ولم يأت لزيارتها قط فى العطلات منذ سافر ..
     وشعرت بأن شيئا يتمزق من الإطار الذى رسمته لنفسى والواقع أنى لم أكن أحب أن تكون ثريا زوجة لرجل آخر .. فى اللحظة التى تجلس فيها بجوارى فى السينما .. وأحسست بسيل دافق من المشاعر جعل الوجوم يزحف على معارف وجهى .. وكنت ضعيفا فى هذه الناحية بالذات ولا أحب مطلقا أن أصاحب سيدة متزوجة .. أو تكون لى بها علاقة على نحو ما ..
     ولزمت الصمت .. وأنقذنى من الموقف الحرج .. تحرك الرواية على الشاشة ..
     وكنت فى الواقع من اللحظة التى رأيت فيها ثريا أتمنى أن تكون زوجتى بعد شهر .. أو سنة .. فإننا كنا فى سن الشباب معا .. وفى نضارته .. ولم يدر بخلدى قط .. أنها متزوجة .. فلما عرفت الحقيقة كنت كأنى قد تلقيت صفعة على وجهى ..
     وعدنا إلى الفيلم .. وكان البطل يطارد بعض الوحوش فى آجام أفريقيا ..
     وبدأت ألاحظ أن ثريا تلتصق بى عن خوف .. كلما هجم وحش على الشاشة ..
     ـ أتخافين من الوحوش ..؟
     ـ بالطبع ..
     ـ ولكنها بعيدة هناك فى أدغال أفريقيا ..
     ـ إننى أتصورها .. هنا ..
     ولما انتهى الفيلم .. وخرجنا من السينما .. كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة .. وسألتنى :
     ـ هل معك السيارة ..؟
ـ لا .. اننى فى يوم الجمعة .. أحب أن أمشى ..
ـ إذن نجلس فى مكان ما .. ربع ساعة .. لنشرب الشاى ..
وعجبت لتطور حالها .. وجلسنا فى محل لاباس حوالى ساعة ..
وكانت تسكن فى جاردن سيتى .. فرأيت أن أوصلها إلى البيت وأبدت رغبتها فى أن نسير على النيل ..
فاتخذنا الطريق من عند كوبرى قصر النيل .. وسرنا على الكورنيش بحذاء النهر .. وكان الجو لطيفا .. والنجوم تتراقص على صفحة الماء .. والشاطىء الآخر ينعكس بعماراته وأنواره ..
وكان الجو كله يوحى بالبهجة ولكنى مشيت صامتا وأنا أحس بأنه قد تقطعت بى الأسباب .. فليس لعلاقتى بها غاية مرجوة .. ولما رأتنى صامتا كئيبا مشت دون أن تنطق بحرف .. وكانت خصل من شعرها تتراقص بها النسمات الحلوة ..
وكان نسيم الليل يرطب خدها .. وأشعة القمر تتسلل إليها عبر أوراق الشجر كأنها تبحث عنها بعد كل خطوة ..
ونظرت إليها .. عبر الليل تحت الضوء الشاحب فرأيت وجهها وقد أصفر فجأة .. وبدت عليها سيمات القلق ..
ولم أكن أعرف ما يدور بخلدها فى هذه اللحظة .. ولكننى خمنت بعضه ..
ولقد لمست من لمساتها الرقيقة فى السينما والتصاقها بى عن غير قصد أنها مرجل محبوس .. ولم أكن أنا الذى يحرك الصمام .. فإن مجرد معرفتى أنها متزوجة أقامت بينى وبينها حاجزا منيعا مزدوجا ..
وكنت وأنا أسير أعرف أننى أتقدم فى غير غاية ولا غرض .. وأنى قد دفنت كل عواطفى مرة واحدة ..
وحدثتنى ونحن نقترب من البيت أنها تعيش مع ابنة خالتها وهى أرمل مات عنها زوجها منذ سنوات .. وأنها فى غير الذهاب إلى السينما وتسوق بعض الحاجات .. لا تخرج من البيت أبدا .. حتى أصبحت تخشى على جسمها من الترهل .. فقد كانت فى المدرسة لاعبة تنس .. أما الآن فهى لاتقوم بأية رياضة على الإطلاق ..
وكنت أسمع منها هذا الكلام بجذل صبيانى وأسر جدًا لأنها تحدثنى عنه فى أول نزهة لنا ..
ولكنى كنت من الجانب الآخر .. قد قررت أن أضع حدا لهذه العلاقة .. وأن أقطع هذا الخيط .. قبل أن يتصل ..
ولما أحسسست أننا اقتربنا جدا من بيتها .. مددت إليها يدى .. وأحسست وهى تعطينى يدها بالحرارة فى يدها والجذل فى عينيها ..
وتركتها تنطلق إلى بيتها .. ودرت فى الشارع دورات ثم أخذت أستقبل من طريقى ما استدبر .. رجعت إلى نفس الطريق الذى كنا نسير عليه من لحظات وكأننى كنت أبحث بعينى عن أثر أقدامها الصغيرة على الأرض المغطاة بالبلاط .. وأقول بعد كل خطوة :
ـ هنا كانت تسير .. وهنا ترددت أنفاسها ..
ولكنى لما وضعت رأسى فى الفراش .. قررت أن أقطع هذا الخيط الدقيق بسكين حادة ..
ومر شهر .. ونسيت ثريا فى زحمة العمل فى المستشفى والعيادة ..
وفى عصر يوم من أيام الخميس وكنت قد عدت من الخارج توا .. رن جرس التليفون فى العيادة .. ولما رفعت السماعة .. سمعت صوت ثريا فى الخط .. وأخذت تعرفنى بنفسها وتذكرنى بلقائها فى السينما ثم ..
قالت لى :
ـ إنى ذاهبة إلى نفس السينما فى حفلة الساعة السادسة من مساء الغد .. وتتمنى أن ترانى .. هناك ..
واختارت هذا اليوم لأنها تعرف أنه يوم راحتى ..
وشكرتها ووعدتها باللقاء وفى عزمى ألا أذهب .. ولكن قبل الميعاد بساعة أخذت أعد نفسى للذهاب إلى السينما .. وفيما أنا خارج من البيت اعترضتنى حالة عاجلة فى نفس الساعة .. وشغلت بها إلى ساعة متأخرة من الليل .. ولم أستطع أن أذهب إليها .. ولم أكن أعرف رقم تليفونها لأعتذر لها ..
وفكرت فى أن أذهب إلى بيتها وأترك لها بطاقة اعتذار وأشرح لها سبب التخلف ولكننى أدركت أن البطاقة قد تسببب لها بعض المتاعب وهى سيدة متزوجة .. فتركت الأمور تجرى فى أعنتها ..
*** 
وذات ليلة وكنت أعود مريضة فى عمارة تقع بشارع حسن الأكبر بحى عابدين .. لمحت ثريا تتحرك على السلم أمامى ولم تشعر بى .. ثم رأيتها تدخل شقة فى العمارة قرلأت على بابها لافتة صغيرة مكتوبا عليها بلغة لاتينية لفظة " حكيمة ومولدة " ..
وشعرت بهزة .. وكنت أود أن أدخل وراءها ولكننى تراجعت ..
ولما نزلت من شقة السيدة المريضة .. وجدت شيئا قويا يدفعنى إلى المرور .. على شقة الحكيمة ووقفت فى الطرقة ثم اقتربت من الباب وسمعت حركة غير عادية أزعجتنى وجعلت الهواجس التى فى رأسى تتحول إلى حقائق .. وضغطت على الجرس .. ثم تراجعت .. وبعد لحظات فتح الباب .. وأطل منه وجه مذعور لسيدة مسنة فى مريلة بيضاء ..
فخمنت ما حدث ..
ودخلت على التو فى عنف دون أن أنتظر منها الإذن بالدخول وأنا أقول للحكيمة بأننى قريب السيدة التى بالداخل .. ووجدت ثريا ممددة على الطاولة وأدركت ما أجرته لها الحكيمة .. كان كل شىء قد انتهى وكانت حالتها خطيرة ..
وفتحت ثريا عينيها .. ولكنها لم تعرفنى .. كانت فى غيبوبة تامة ..
وماتت بعد ربع ساعة بين ذراعى .. وعرفت .. أنها جاءت عند هذه الحكيمة لتجهض نفسها ..
وسألت الحكيمة وأنا أمسح عرقى :
ـ فى أى شهر كان الجنين ..؟
ـ فى الشهر الثانى أو الثالث ..
ـ وكيف تقومين بهذا العمل .. أنت مجرمة .. كيف تقتلين روحين بمثل هذه السهولة .. أى جهل ..
وبكت العجوز .. دون أن ترد ..
وكنت أعرف أنه فى هذا الوقت بالذات .. كانت ثريا ضائعة .. وتشعر بالفراغ فلما التجأت إلىَّ صددتها بعنف وبحماقه ..
وكانت فى حاجة إلى حنانى .. وإلى أى حنان .. بعد أن تركها زوجها وصددتها أنا .. فوقع لها ما وقع ..
*** 
وأخذت أعمل بكل قوتى لأكتم الفضيحة ..
فاتصلت بطبيب كبير أعرفه بعد أن نقلتها إلى عيادتى .. واستصدرنا التصريح بالدفن لحالة وفاة طبيعية .. ودفناها ومعها سرها ..
 وما زلت كلما عاودتنى ذكراها أحس برعشة .. تهزنى .. وبالعرق يتفصد على جبينى .. لأنى كنت أحد الذين حرموها من الحياة ..



ــــــــــــــــــ
نشرت القصة فى ص . الشعب بالعدد 254 بتاريخ 14/2/1957 وأعيد نشرها فى مجموعة " ليلة فى الطريق " سنة 1962
ـــــــــــــــــــــــ








































فهرس

            اسم القصة                 رقم الصفحة 
الذهـــب ......................       2
الزورق         ......................     12
امرأة فى الظل  ......................     19
الرجل الأعزب  ......................     27
الرمــــاد   .....................      39
ليلة فى الطريق .....................     44
تحت الأمطـار  ....................       51
الحان راقصـة  ...................        61
الزهــــور  .........................   69
الطلقة الأخيرة   ........................   77
الطــــوق     ......................  89
فى البــرية    .......................... 97
اللـؤلـــؤ   ..........................  102
نور فى المحطة  ........................  112
التنيـــــن   .......................  120
العرجــــاء   .......................  137
قصــة فتـاة   ........................  147